تألمنا بمرارة... وما زلنا نتألم لسقوط مصريين... قتلى وجرحى... ودماء مصرية زكية تُراق هنا وهناك، بأيدينا
ولكن ما الذى يجعلنا نشعر بهذه المرارة "المريرة" هذه المرة.. هل لكون ما أريق من قبل كانت مياها وليست دماء؟!، أم اكتشفنا- فجأة- أن مَنْ قضوا (قبلُ) كانوا أعداء " ليسوا منا ولسنا منهم فى شىء "؟!... لماذا كل هذا التناقض والتضارب فى مشاعرنا، نصرخ هنا ونتهدد ونتوعد ونسبّ ونقذف- ظنّا- مَنْ كنا ندعو الله- ليلَ نهار- ونرجوه بأن يكون سببا لتخليصنا مما نحن فيه.
ومما وصلنا إليه من طعن ولعنٍ وفُحش فى القول وقبح فى الفعل وتقسيم حاد... واستقطاب مقيت... وأصبح كلٌ منّا فى طرفٍ لا نلتقى أبدا، وصِرنا جميعا إلى معادلةٍ لا حلّ لها " إما معى أو ضدى "، " إما إسلامى، وإما غير ذلك ". ..كنا ندعو الله ونرجوه بأن يلهمه الصواب وأن يتدخل ليس من أجل أن ننتصر لفكرتنا ووجهة نظرنا، وإنما من أجل وحدتنا، وحفظ أمن بلدنا، وحقن دماء أبناءنا، والتى من أجلها نعتصر ألمًا اليوم
كنا نصرخ هنا، وننسى أو نتناسى ما حدث هناك من قبلُ، ولم يسبق لنا أن نتهدد أو نتوعد أو نتنابز بالألقاب، كما فعلنا هذه المرة، !!!
هل جدّ جديدٌ لتهديد اليوم، وتناسى الأمس؟
ٍليس هناك جديد، وما أشبه الليلة بالبارحة... وما هذا التهديد إلا من ذاك التناسى، فكلاهما من نبعٍ واحد، ودُفعنا إلى كليهما دفعًا دون أن ننتبه، فمنذ أن نُحّى المتنحى والإخوان يدفعون الأمور ويوجهونها إلى كل ما يحقق مآربهم وهدفهم المنشود "عرش مصر" وكنوزها، بكل ما تعنيه الكلمة، ضاربين عرض الحائط كل ما يئنّ منه الشعب وما يتطلع إليه، وأصبحوا فى وادٍ والناس منهم فى وادٍ آخر، نَفسى نَفسى، وهو ما ثبت لاحقا، وظهرت بوادر ذلك مع اعتلائهم منصّة "مجلس الشعب" وحصولهم على الأغلبية... بأيدينا نحن، لا غيرنا، وقيل لهم وقتئذٍ "شرعية الميدان وشرعية البرلمان "... فأجابوا: " لا شرعية إلا شرعية البرلمان "، ومع ذلك لم يصنعوا شيئا، وحدثت مذبحة بورسعيد- على سبيل المثال- وراح ضحيتها أكثر من73 شهيدا، ومع ذلك لم يحركوا ساكنا، اللهم إلا من لجنة تقصٍّ كانوا هم أعضاءها ولم نسمع عنها شيئا إلى يومنا هذا، ودفعنا إلى التناسى بأحداثٍ متتالية كانوا طرفا أصيلا فيها.
وطيلة مجلسهم هذا لم ينتفضوا ولم يهبّوا ولم يغضبوا لأمر ألمّ بالشعب اللهم إلا هبّتهم وغَضْبتهم عندما أراد عمر سليمان الترشح للرئاسة وثارت ثائرتهم وهددوا وتوعدوا وعلقوا أعمال المجلس لمدة أسبوع، كما نعرف جميعا.
وعندما قال الميدان: يسقط يسقط حكم العسكر، قالوا- الإخوان-: إللى هيرش المجلس بالميه هنرشه بالدم، ويا مشير احكم وأنت الأمير، وعندما اختلفوا فيما بيهم ورأوا مصلحتهم فى الإطاحة بالعسكر وأن الفرصة قد أصبحت سانحة دفعوا الأمور إلى ذلك وأخذوا يؤججون نيران الشعارات الملتهبة المنادية بإسقاط حكم العسكر، فى عودةٍ منهم تارةً أخرى إلى الميدان مع المرابطين فيه الذين لم يغادروه أساسا، ونالوا من سباب الإخوان ما نالوا، من كونهم بلطجية، وتعاطيهم " للترامادول " والمخدرات، وغير ذلك من سبٍّ وقذفٍ للناس بالباطل، دُفعنا إلى تناسيه بمهارة الإخوان السحرية والتى تعرف جيدا متى تتقدم، ومتى تنسحب، متى تتوعد، ومتى تداهن وتبتسم، مهارة تربّوا عليها.
وسارت الرياح بما تشتهى سفنُ الإخوان، ودنت انتخابات الرئاسة، وقد ترشحوا لها بعد أن قطع مرشدهم وعدًا بخلاف ذلك، وأكده وجاء على لسانه مَنْ تبوأها فعلا.
ونجح الإخوان، بأيدينا، بعد وعودٍ قطعها مرشحهم على نفسه وبأيمان مغلظةٍ بأنه لم يحنث فيها- وقد حنث- وبعد مشروع لنهضةٍ شاملة يجعل من مصر جنّة وارفة الظلال ينعمُ فيها أهلها بجنات النعيم، أنفق فيه مهندسهم من عمره سنين، ومن تجارب الأمم الناهضة ونمورها المتوثبة صاغها بعقل رشيد، وبعد ما عشمنا بالحلق وتهيّأنا لنعيمٍ مقيم، خرج علينا ذاك المهندس على حين غِرّة ليؤكد لنا بأن مشروعه إنما هو محض خيال وسراب، (ههههههههه، ضحكت عليكم).
وبمهارة الإخوان السحرية وكعادتهم دُفعنا إلى تناسى ذلك- بأحداثٍ متتالية- وتلك الخدعة الكبرى والكذبة العظيمة والتى كانت أساس العقد الاجتماعى الذى أبرمناه معهم كانت كافية- وقتئذ – لإسقاطهم.
وتمضى الرياح- الأيام- ولكن هذه المرة بما لا تشتهى سفن الإخوان، حيث بدأت الأزمات الحياتية للناس تطفو على السطح- من غاز وسولار وبنزين وكهرباء وانفلات أمنى وغيابٍ للقانون وتفشٍ لظاهرة البلطجة وخطفٍ للمواطنين، رجالا ونساءً وأطفالا، وشعور الناس بأن هناك خطرا ما يتهددهم ويحدق بهم ولا يدرون كُنْهَه ولا من أى طريق سيأتيهم، فقط شعور بالخوف وعدم الطمأنينة.
كل هذه الأزمات كانت واقعا مريرا عاشه الناس فعلا دون أدنى شعور بالمسئولية من قبل النظام، بل، وفى محاولة جاهدة منه للتستر على فشله وعجزه فى إيجاد حلول عملية لها أخذ يتنصّل منها أحيانا، ويتنكّر لها ويقلل من حجمها أحيانا أخرى، وتبلغ به المراوغة مداها عندما يرى أن سبب تلك الأزمات إنما يعود إلى أمرين لا ثالثَ لهما (إعلام مضلل مأجور- أو معارضة بما تحويه- من وجهة نظره- من فلول وليبراليين وعلمانيين ويساريين، وغيرها من مصطلحات لا تسمن ولا تغنى من جوع. ..)، الأمر الذى ثبتَ فيما بعد أنه كذب ومحض افتراء باعتراف الرئيس المعزول بنفسه فى خطابه قبل الأخير والذى تمنّى فيه بأن يأخذ (جركن) ويزاحم جموع المواطنين فى طوابير الوقود، إحدى الأزمات- على سبيل المثال- التى انقشعت بعزله، وظهورها فى غزة إثر تدمير 85% من الأنفاق.
وإلى جانب تلك المشكلات الحياتية للمواطنين- والتى لم تكن السبب الرئيس لهم فى خروجهم عليه برزت القشة التى قصمت ظهر البعير، والذنب الذى لا يمكن للشعب أن يغفره لأى حاكم، سواءٌ أكان من الإخوان أم من غيرهم، وهو حالة الانقسام الحاد التى أصابت المجتمع المصرى كله... فى إنجازٍ تاريخى لم يسبق إليه حاكم قبل الرئيس المعزول، وأصبح الناس فريقين عظيمين لا ثالث لهما: (إما مؤيد، وإما معارض)، حتى صار الواحد منا قبل أن يتحدث إلى أى إنسان يتوجسُ منه ريبةً، ويتساءل فى نفسه، وعيناه حائرتان، وأذناه مطرقتان، تُرى، هل هو مؤيد أم معارض، الأمر الذى يجعله يحسم أمره، ويتخذ قراره- فجأة- ويتوجه له بالسؤال مباشرة: هل أنت مؤيد أم معارض؟ وبناء على إجابته يتبلور شكل الحوار بينهما لاحقا، وربما العلاقة بينهما برمّتها، وتبلغ الحيرة مداها، والقلق منتهاه، عندما يكون مخالفك الرأى أحد أقاربك أو أحد أصدقائك المقرّبين أو ممَن يعزون عليك، فإذا كنتَ ممن أنعم الله عليهم بنعمة العقل والحكمة فإنك حينئذ تُؤْثِر السلامة، وتتجنب الحديث تماما فى الموضوع حرصا منك عليهم، وعدم تكدير الصفو بينكم.
ومن رحم هذا الانقسام الحاد تولّد شعور لدى المصريين- جميعا- ألا وهو شعورهم بأنهم لأول مرّة، على اختلاف أعمارهم، يُصنّفون على أساسٍ دينى، وكأنهم- المصريين- يتنبّهون لذلك لأول مرة، ثم بعد ذلك يُقسّمون على أساسٍ مذهبى (سنّى- شيعى. ....) مما يُنذر بخطرٍ شديد يتهدد المجتمع ككل، وفتنةٍ عظيمة تأتى على الأخضر واليابس، ولا ينجو منها أحد، حتى مَن أشعلها " واتقوا فتنةً لا تُصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة".
هذا الاستقطاب، القبيحُ وجهُه، والمقيتةُ آثارُه، عمِل الإخوان على تأصيله فى المجتمع، وتعميقه فى نفوس الناس، ولذلك لا نعجبُ كثيرا عندما نرى أحدهم- الرئيس المعزول- يخرج عليهم خطيبا، عندما جُمِعوا له عند قصر الشعب، ونراهم مهللين مكبرين مسبحين بحمده، ولانعجب إذا ما رأينا غيرهم- وهم من الشعب كذلك- بعد أسبوع فى نفس المكان، ولا نرى من يخرج إليهم، ولا يستمع لهم، وإنما رأينا أولئك المهللين، مهاجمين، باحثين عن المعفّنين... (كما فى عيون المهللين) ورأينا دماء الشعب- مهللين ومعفنين- تُراق عند قصره، وبمهارة الإخوان السخرية كعادتهم ضاعت تلك الدماء الزكية " جمعاء " بين أخذٍ وردٍّ، وشكٍ وتشكيكٍ، وبين مؤيد ومعارض، ودُفعنا دفعا إلى تناسى تلك الدماء... بأحداث متتالية، ولم نتهدد وقتها... ولم نُرغِ ولم نُزبدْ
ومن وقتها، وحتى عزل الرئيس وكانت دماء المصريين تُراق فى كل مكان... وفى كل مرةٍ لم نتهدد ولم نتوعد، ولم نتنابز بالألقاب ولم نُفحش فى القول، وكنا نُدفع إلى تناسى ذلك دفعا بمهارة الإخوان السحرية، وبأحداث متتالية.
وبعد عزل الرئيس. ..توالت إراقة دماء المصريين، ولكننا فى هذه المرة- وعلى غير العادة- لم نُدفع إلى تناسيها، وإنما نَرَى، مَن كان بالأمس يُنسّينا، دماءً سالت... وقتلى وجرحى سقطوا، نراه اليوم يذكرنا بتلك الدماء ويطاردنا بها فى كل
مكان، بل، ويطارد بها العالم أجمع، مستجديا ومستنصرا
تُرى ما الذى جدّ اليوم؟ وما الذى حَدَا به حتى يُذكرنا، بل، ويطاردنا، بعد أن كان بالأمس القريب يُنسّينا؟
كان بالأمس ينسّينا لأنه كان متوّجا على " عرش مصر "، بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، ويرفُلُ فى أسباب النعيم، وتتوفر له من متع الحياة ومن أسباب الحماية ما لم يتوفر لغيره من عامة الشعب، وظنّ- غفلةً منه بسُنن الله فى كونه- أن الدنيا قد دانت له، وأن قِطافها قد ذلت له، وأنه لن ينازعه فيها أحدٌ، ولن يسمح بذلك، وأن دونها الرقاب، كما كنا نسمع منه، فى أحيانٍ كثيرة، لذا لا نعجب كثيرا إذا ما رأيناه لا يأبه البتة لمعاناة الناس، ولا لمشكلاتهم اليومية، والمزمنة، ولا حتى لدمائهم التى تُراق، هنا وهناك، حتى وإن كانت من المهللين، فلا ضَيْرَ، إذا، أن يُضحى ببعض عامة المهللين.
حتى ينعم خاصتُهم برغدِ العيش، من أجل ذلك كله، وأكثر، كان يُنسّينا، فالذئاب تعوى والقافلة تسير، كما يرى.
أما اليوم، فقد زالت جنتُه، التى توهمها خالدة، وزال ملكُه، حصنه الحصين، بل وزال معه كل شيء، الطريفُ والتالد، وظنّ- جهلا منه وغباءً- أنه بإمكانه إعادة اللبن المسكوب إلى الكوب تارة أخرى، على خلاف سنن الله فى الكون. .
إذن، ماذا عساه أن يفعل حتى يعيد مجده المنصرم؟
سيفعل أى شيء، وسيسلك أى طريق، بُغية الوصول إلى هدفه- كما يتوهم هو فقط- ولذا لا نعجب إذا ما رأيناه يعود تارةً أخرى إلى عقيدته، التى يؤمن بها، وهى أن يُضحى ببعض عامة المهللين، وليسوا غيرهم هذه المرة، لأنهم يجب أن يكونوا هذه المرة- حَصْرًا- منهم، حتى يتمكن من مطاردتنا ومطاردة العالم بدمائهم، دون كللٍ منه أو مللٍ، وهذا ما نراه بالفعل
لكنه، وفى خضم. .نسجه لخطته الشيطانية هذه، أغفل أمرا بالغا، يكشف قبحَ طويته، وخبثَ سريرته، وهو أن تألم المصريين- جميعهم- وشعورهم بالمرارة كان لإراقة دماء المصريين مطلقا، بغض النظر عن انتماءاتهم، الدينية والحزبية، سواءٌ أكانت قبل التنحّى أم بعده، قبل العزل أم بعده.
أما هو فلا يُظهر الحزن، ولا يتباكى، إلا على دماء المؤيدين فقط، ولا ينبغى له غير ذلك، وكأن الدماء الأخرى التى سالت كانت مياها، أو كانت لأعداء.
إنما إظهاره للحزن هنا، وتباكيه على دماء المؤيدين فقط وتناسيه للدماء الأخرى ليس له من سببٍ منطقى سوى أنه يتاجرُ بها، يُتاجر بها، يُتاجر بها.
ولذا، نراه- دوما- يذكرنا بها، ويستجدى بها- داخليا وخارجيا- ويستنصر بها مَن ليسوا منّا ولسنا منهم لإعادة فردوسه المفقود.
أما، نحن المصريين، فإننا نبكى كل الدماء، تلك الدماء الزكية النقية البريئة، ولن ننساها، ولن يدفعنا أحدٌ إلى نسيانها تارةً أخرى، لاسيما- دماء المؤيدين، والتى إنْ نسيناها سنكون بذلك مشاركين فى الزجّ بآخرين من عامتهم، للتضحية بهم، من جديد، من أجل المتاجرة بدمائهم، من أجل دنيا لا قيمة لها.
كل الدّم حرام
وحسبى الله ونعم الوكيل.
شهداء
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة