فى ركنٍ قصى من الذاكرة ترقد تلك اللحظات، تبدو نائية، بعيدة بُعد السنوات الفاصلة بين الطفولة والشباب، بين الغياب وحضور الوعى وإدراك مدى قسوة الأيام وتتابعها.
باهتةٌ تبدو التفاصيل الصغيرة، حضورها خافت كخيوطِ شمسٍ غاربةٍ تنسلُّ من قبضة النهار متسربة من بين أصابعه، ودون شعور ترحل مخلفة طيفا يوهم بوجودها ويؤكد اختفاءها الحتمى.
تفاصيل أخرى لها تجلٍ وحضورٌ قويان يقاومان طوفان النسيان الزاحف بكل غشاوته على سنوات النشأة والتكوّن، البراءة الخالية من أصباغ واقعٍ مرير الوطأة، العقلُ المُشْرَعُ لكل ضَوء ينيره، لاحُجُبَ كى تمنع نفاذه، ولا أستار تقبض أحضانها على خيوط النور.
القلبُ شاغرٌ من الهموم، لاتنعقد فى أروقته الأكدارُ ولا يقربه قلق عفى يمزق نياطه، ويدمعُ أعينا تنغلق لاستقبال أحلام سحرية قادمة من عالم خلقه خيال جموح يرفرف بين ندفات السحاب ونقط النجوم اللامعة فى سماء صافية، مفعمة بهدوء وسكون يطلقان عنان الأحلام السكرى.
ومضة تبرق عبر غيوم الماضى، الشمس تحبو نحو الاستتار فى خيوط الليل، رماديةُ ما قبل المغيب تفرش الكون وتحيله إلى أطياف غامضة، محببة إلى نفوس الأطفال، طالما ينتظرونها قبل الغروب وأثناء الشروق، لحظات فارقة بين ليل قادم أو راحل وصباح يتفتح، ونهار يغمض جفونه، وتذبل زهراته، ويعم السكون فى الكون. من تلك اللحظات ما يُضن به فى خزائن الذكريات، تحركه أصوات بعينها، من موضع ركوده يتحرك، ومن استتاره ينبت، وصوب سماء إشراقه يعلو.
الورقة الأولى محددة بذلك الصوت، مؤطرة بزمان تجليه، سريانه فى دروب العمر الملتوية؛ ذلك هو صوت الشيخ محمد رفعت الذى يأتى مشوشا عبر راديو قديم، إلى أى السنوات يمتّ؟ ربما إلى أوائل الثمانينات من القرن الماضى، قبل مجيئى إلى الدنيا ببضع سنين، يعلو الصوت ثم يغيب ويعاود الوضوح مرة أخرى، صوت الشيخ رفعت يردٌّ السامع إلى أزمنة بعيدة، زمان نزول الوحى على الرسول الكريم، يجرك الصوت إلى الماضى، يدفعك لاجترار الذكريات، موجاتٌ تصطحب ذلك الصوت، من الماضى ينبعث، ويبعث معه كوامنا طالما ظلت فى سراديب الخفاء، يرسل الصوت إشارتين، يستحضر زمانين مختلفين، اصطبغا بتلك الموجات، ما أن يجرى متماوجا حتى تتلقفه الأذن، أول تلك الأوقات: الساعة السابعة من صباح كل يوم حيث تَبث إذاعة القرآن الكريم نصف ساعة للشيخ رفعت، ثانى الأوقات وهو أَوْلاهُمَا بالقُربى، أَشْمَلْهُمَا بالمَودة، أَكثرهما اصطخابا فى عمق الذاكرة، أَحَبُّهُمَا إلى القلوب، تلك أُويقات ما قبل الإفطار فى شهر رمضان.
"فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً".
الشوقُ لجرعةِ ماءٍ تطفئ الظمأ، قلقُ الأحشاء من شدة الجوع، دقائقٌ باقيةٌ على الإفطار، العينان مقلبتان فى السقف، والأذن ترهف السمع لصوت القرآن.
"وهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً"
تصمت الأصوات، ويلجئ الانتظارُ الأفواهَ إلى السكوت ".فَكُلِى وَاشْرَبِى وَقَرِّى عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِى إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا"
ينطلق الأذان، وتلهج الألسنة بالدعاء.
صورة أرشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة