إن مجمع اللغة العربية المصرى هو حقا مجمع الخالدين بكل ما تحمله العبارة من معنى يستوعب الزمان والخبرة والمقدرة؛ فيما تكوَّن به من أعضاء يُعَدون رموزا فى تخصصاتهم وعلامات بارزة فى مسيرة العطاء الدافق الذى قدموه لخدمة لغتنا الجميلة، ولا ينكر أحد ما لذلك المجمع من قيمة فائقة ظلت ردحا طويلا من الزمن، أخذ فيه طريقه ناميا متطورا مبدعا، يصون كيان تلك اللغة، ويدفع عنها الجهل بقيمتها والعبث بمقدراتها والتآمر على إهمالها؛ انصرافا عنها إلى اللهجات العقيمة والعامية المتخلفة، حتى تنفصل العقول والعواطف عن تراثها الأصيل وتاريخها المجيد ومقدراتها الأدبية والعلمية والفنية التى أخذت على عاتقها مهمة صياغة الهوية الفنية والثقافية فى كل مايمثل مخزون العقل العربى من نماذج فى العلم والأدب والفن على ساحة المعرفة مسيرة ذلك التاريخ الطويل إلى عصرنا هذا، بل حياتنا التى نحياها الآن؛ وإننا لنأمل أن يظل الحال متجها نحو الأقوى والأشمل والأفضل بعون سابغ من الله تعالى.
ثم ماذا نرجو من مجمع الخالدين وقد اضطربت بالسفن أمواج عاتية تكاد تعصف بالواقع العلمى والأدبى عصفا شديدا فيما صار إليه حال لغتنا، بشيوع كثير من ظواهر الخطأ وملامح التشويه من منطلقات عدة يقود مسيرتها عدم المبالاة؛ من تأثر بالنظرة التحتية إلى مكانها بين لغات الآخرين وثقافاتهم؟ وإنه على رغم وجود الخط المدافع عن كيانها فى صور متنوعة من ذلك الدفاع متمثلا فى جهود مجمع الخالدين فى مصر، وفى جهود غيره من مجامع علمية فى أماكن أخرى، على رغم ذلك كله ـ فإن الحال شاهد على أن قدرة المد الفوضوى اللغوى تمكنت من أن تخترق الحواجز إلى حيث مكامن الصيانة والحفظ، فإذا هى تزلزلها، وتهدم من بنيانها ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.
ماذا نرجو من المجمع العظيم وثقتنا فى قوامته للغة العربية أنه يشد من أزرها، ويروى شجرتها، فيصون وجودها مبدعا فى كل ما يوائم العصر مواءمة تجانس وانسجام، تُقِران من التراث أفضله وأنسبه، ومن الواقع المستحدث أنبله وأقربه؟
أقول بتواضع خالص وأنا اقدم رجلا وأؤخر أخرى أدبا واستحياء: إنا لنرجو الآتى:
1 -أن ينشر مجمع الخالدين كل ما تجود به جهوده المجمعية الخلاقة: من بحوث لغوية، وعلمية وفنية، ومن نشرات وقرارات سائرة أو دورية، ومن مجلات عامة أومتخصصة شهرية أو فترية أو مادون ذلك إن وجد، وبالجملة نشر كل عمل يظهر على طريق نشاطاته الشاملة نشرا مستمرا استمرار ولادة العطاء، وبحيث يعاد ذلك النشر بما لا يجعل شيئا منه يتوقف توقفا لا يترك للراغبين فرصة تتيح لهم الاطلاع وتثقيف الذات بمثل ذلك العمل العظيم، ولا يتوقف توقفا يمنع على الحياة الثقافية الشاملة تعددا وتنوعا؛معايشة للمتطور والْمُبدَع من قضايا تلك اللغة الرائدة فى خصوصيتها المحلية، وعالميتها الإنسانية؛ ولا يحقق ذلك الاكتفاء نشرُ نماذج محدودة فى أوقات محدودة وأماكن محدودة أيضا؛ ففى تلك المحدودية تضييق شديد للدائرة التى قد تمكن بعض الخاصة الحريصين على تتبعها،المتاحة لهم الفرصة لتلتقف ما يظهر منها على مستوى تلك الدائرة الضيقة، بينما يحرم منها جمع غفير من رواد الثقافة ومحبيها،بل فى ذلك حرمان شديد لحياة الناس كل الناس من أن تغذى عقولها، وتروى روافد معارفها فى أرجاء مصر، بل فى غيرها من بلاد أخرى وعوالم أخرى كذلك، وأنادى راجيا أن تعلن الجهات المختصة عن منجزات المجمع الكريم بصفة مستمرة من طرق وسائل الإعلام المختلفة إعلان بيان للنوع ومكان التوزيع، ويمكن-مع ذلك- الإعلانُ من خلال المؤسسات العلمية والتعليمية والثقافية، ومن خلال كل جهة لها علاقة أية علاقة معرفية من أى نوع.
2 ـ أن يبرز دور المجمع بطريقة ما، وبقدر مناسب من الحزم والقوة فى مقاومة ما شاع ويشيع من أخطاء شوهت صورة اللغة، وأثَّرت فى مستوى مضامينها الفكرية والبلاغية مناط الجمال والفتنة والسحر فى كلماتها وتعبيراتها المكتوبة والمقروءة. نجد ذلك فى مواطن كثيرة زحف إليها ذلك الفحش اللغوى المخل، لا تسلم منه شاردة ولا واردة، حتى الجهات التى تُعد متخصصة فى التعامل معها على حالة ما من حالات التعامل، أو حامية لكيانها مدافعة عن سلامة وجودها، لكن الخطر من بين ذلك كله ما لحق وسائل الإعلام من تلك الوصمة التى تقبلها الناس مسئولون وغير مسئولين مختصون وغير مختصين على أنها شىء بسيط، يظهر فى واقع لا تهم فيه صحة اللغة بقدر ما يهم بلوغ معنى الفكرة، ناسين أو متناسين أن الفكرة لا تصل صحيحة إلا بصحة الصياغة اللغوية حرز كل الأفكار والمعانى؛ فالمُحَرّزُ مهدد بالبوار والضياع عندما يكون حرزه غير مصون بالصحة والسلامة.
وإن أخطر الخطر لهو الهزال اللغوى المتمثل فى أنشطة وسائل الإعلام قراءة وكتابة مما نقرؤه أو نسمعه من خلال الشاشة الصغيرة: التلفاز، والكمبيوتر بتقسيماتهما وتفريعاتهما، وتأكدْ ما شاء الله لك التأكد من صحة ما يظهر لعينيك من عناوين وإعلانات وسلامات وأدعيات وأسئلة، ثم أصغ إصغاء تأمل وتدبر لما يذاع فى صورة أخبار عامة أو أحاديث فردية فى مناسبات متنوعة أو تفسير أحلام أو حوارات ومساجلات . . . فسيدهشنك، ويصك أذنيك حوشى الكلام ورديئه الذى بلغ فى الأخطاء النحوية، والإملائية، و فى التدنى البلاغى، والإسفاف الشائع بين التراكيب والمبانى، وفى عامية الجهلاء البلهاء ـ مبلغا يبعث إلى ما ذكرنا على التقزز والضيق الشديدين ؛لما آل إليه حال لغتنا من عشوائية وانحدار، إنه طرح سقيم، يهدد بحق أمكنية لغتنا الموصوفة بالبراعة والقدرة الفائقة على أن تكون الوسيلة المثلى للتعبير عما تكنه العقول وتتنازعه العواطف، كل العقول والعواطف على المستوى الإنسانى العام؛ لأنها لغة الفطرة التى فطر الله الناس عليها؛ فالناس جميعا على اختلاف لغاتهم وتنوع لهجاتهم لا سبيل لهم إلى ترجمة صادقة لأفكارهم ومشاعرهم غير سبيل اللغة العربية من ألفها إلى يائها.
3 ـ أن يثبت لمجمع الخالدين بصفة تكون رسمية مشروعة الحقُّ فى التدخل الفعلى بطرق ينظمها هو، أو تنظمها معه الدولة؛ لبسط رعايته الإشرافية التقويمية لكل مطبوع من المؤلفات الخاصة، والمؤلفات العامة التى يأتى على رأس قائمتها المؤلفات المدرسية، والجامعية على كل مستوى تعليمى ينشغل به هذا الجانب أو ذاك، على أن يدخل ضمن ذلك الحق رأى المجمع فى إنفاذ أمر الإصدار أو تأخيره، قبوله أو رفضه.
3 ـ مناشدة المجمع جهات الاختصاص التى تمثل ثقافة اللغة العربية ركنا مهما من أركان مسارها العملى، كوزارة الثقافة والأزهر والتربية والتعليم والأوقاف، وكل المؤسسات المتفرعة عن تلك الجهات تفريع تواصل وتكامل ـ مناشدتها بأن تلقى للغة العربية علما وثقافة، تلقى لها بالا؛ برعايتها والاهتمام بسلامة المعبر به منها واللب الذى انطوت عليه صياغة ذلك التعبير فى كافة إصداراتها المكتوبة، ونشاطاتها المرتبطة أحيانا بتعليقات المسئولين فيها وأحاديثهم اللسانية الشفوية فى المناسبات التى يتعرضون للتحدث من خلالها.
يلفت المجمع الكريم نظر هؤلاء وهؤلاء إلى ما يقعون فيه من أخطاء تعتبر صحة الأداء بها من أوليات اللغة وبدهياتها، فلفت أنظارهم جميعا ضرورى مهم؛ بوصفهم القدوة التى تؤثر بطبيعة الحال فيمن حولها، وفيمـن دونهم مـن قرب أومـن بعد، وقــد يكون ذلك التأثير بإيجاب، أو قــد يكون بسلب وفق مقدرة المعطِى ومستوى عطائه شكلا ومضمونا.
وأتمادى فى الرجاء، لأطلب أن تستوعب تلك المناشدة كل مؤسسات الدولة التى تتضاعف فيها الحاجة إلى المطبوعات بخصائصها المختلفة، كمحاضر الشرطة والنيابة وملفات القضاء ومذكرات الدفاع.
ثم أرانى الآن وفى كل وقت وعلى كل حال أتمادى فى الرجاء أكثر، آملا أن تستغرق مناشدة المجمع الخالد وتوجيهاته جهات كثيرة لها من الأهمية التخصصية ما يربطها بلغتنا الجميلة ربط وجوب وضرورة بالتعبير المكتوب والكلام المسموع، كمجلسى الشعب والشورى، وغيرهما من مجالس محلية مشابهة، وكالنقابات والجمعيات والأندية الممتدة على طول البلاد وعرضها، من أقصى ركن فى شمالها إلى أقصى ركن فى جنوبها، والله (سبحانه وتعالى) الموفق.
محمد حفنى القرشى يكتب: مجمع اللغة العربية ماذا نرجو منه؟
السبت، 08 يونيو 2013 11:28 ص
صورة أرشيفية
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد مطاوع
محمد الحفنى القرشى الخطيب
عدد الردود 0
بواسطة:
عبد الرؤف اسماعيل احمد
محمد حفتى القرشى