فيما أنزل فى الخمر أم الخبائث ونحوها من المسكرات – فقد سلك القرآن الكريم هذا المسلك وسار فيه بخطى جادة فى تحريم الخمر، ومن هنا بدت مثالية الإسلام وواقعيته الهادفة عندما نزلت الآية تحرك النفس – بأسلوب فى ظاهره غير مقصود ولا مباشر، أن تجيل فكرها فى بعض ما خلق الله من ثمار يتخذ الناس منه سكرا فى مقابل ما يتخذون منه أيضا من رزق حسن. فقال تعالى: ( ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً أن فى ذلك لأية لقوم يعقلون )، ومن غير شك أن هذه المقابلة القرآنية بين السكر والرزق الحسن من شأنها أن تدفع النفس كى تعيش فى مناخ خاص من التفكير المتأنى والتدبر العميق تسير به أعماق كل من المتقابلين وأبعادهما ووجوه المقابلة بينهما، ويدع القرآن للنفس فرصتها أن تتأمل على مهل وأن تستخلص على ترو بعض ما تستطيع من سر وحكمة، الأمر الذى يصل بها فى النهاية الدور إلى نوع من الاستهجان والاستقباح للسكر وعدم الارتياح له. ولا يلبث القرآن كثيراً إلا ريثما يغوص فى أعماق الوجدان ليرى بعض ما يدور فى النفوس مما عساه قد أشربته واستعدت لاستقبال طور آخر ودور جديد من الذكر الحكيم، وحينئذ ينزل القرآن يركز هذه المرة على عامل المادة ذاتها التى هى باعث السكر من حيث ما تشتمل عليه من نتائج وما تدفع إليه من إثم.، وما تجلبه من منفعة، ومع ذلك فقصارى ما قاله القرآن فيها وفى الميسر رفقا بالنفوس التى طالما تفاعلت بها وتمهيداً لمرحلة أتية قال الله تعالى: ( فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما )، بيد أن هذا على وجازته كمال من الدقة والأحكام وتسديد السهم نحو الهدف مما جعل النفوس تتحرج كثيراً من مقارفة الخمر وتشعر بكثير من المضاضة والإثم فى شرابها. الأمر الذى دفع أقوياء الإيمان أن يراجعوا أنفسهم وأن يتهيبوها وأن يبتعدوا عنها، ويمكن أن نلمح هنا كيف مقت الإسلام فيها نفسيا ودينيا وهيأ النفس لاستقبال أية أخرى لمرحلة ثالثة يتدرج بها الإسلام لتحريم الخمور. والإسلام يركز هذه المرة على عامل الوقت والزمن بعد أن ركز القرآن الكريم فيما مضى على عامل الفكر والوجدان والمادة، وحصر السكر فى أضيق الأوقات، فنزل من القرآن الكريم ما يحرم على المسلمين وينهاهم أن يقربوا الصلاة وهم سكارى، كل هذا جعل النفس المؤمنة تتشبع بطاقة هائلة رهيبة من البغض والمقت والكراهية للخمر وما يدور فى فلكها من كل مسكر شرباً أو أكلاً أو بيعاً أو شراء أو حملاً أو مشاركة أو تعاملاً بها أو معها بأى لون وعلى أية صورة مما وصل بها إلى درجة التهيؤ الكامل لاستنكار الخمر حتى لقد كانوا يضرعون إلى الله فى غدوهم ورواحهم أن يبين لهم فى الخمر بيانا شافيا، الأمر الذى أصبحت فيه النفوس مشوقة تماما إلى ما يحسم أمرها ويقطع بحرمتها وينهى إلى الأبد بين المسلمين وجودها، وتلك هى النتيجة الحتمية لكل من عنده أثرة من عقل، وبقية من خير أن يرجع إلى نفسه، ويسائلها عن جميع ما ارتكبت من سيئات وأوزار، من جراء الشراب واحتساء المواد المخدرة والمسكرة، وعندما طلب الله الانتهاء عنها بأبلغ عبارة: ( فهل أنتم منتهون )، كان جواب المؤمنين على هذا البيان الحاسم. قد انتهينا يارب. قد انتهينا يارب.
صورة أرشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة