سيشهد التاريخ أن أول مرة يعترف فيها الرئيس بالتقصير كانت قبيل الانتفاضة الكبرى المرتقبة على نظامه بثلاثة أيام، وكأن الفهم المتأخر من السمات الأصيلة فى القصور الرئاسية فى مصر، فمن قبل كانت الأمور تجرى على لسان الرئيس بكل الخير والرخاء، فكان من يتحدث عن أزمات الاقتصاد هم المفلسين، ومن يتحدث عن انقسام الشارع المصرى التعيس هم المغرضين، ومن يعارض الرئيس وجماعته ونهضته الزائفة هم الكافرين.
المعترف بالخطأ عادة ما يعترف وعلى وجهه أمارات الندم والرغبة الصادقة فى التوبة وعدم الرجوع للخطأ والتقصير، ورغبة أصدق فى أن يسامحه من قصَّر بحقهم، وعرض واضح للإجراءات والتعديلات الجذرية فى منظومته، لكن هذا لم يحدث. وبدلا من الاعتراف بنوعية التقصير ومقداره، انخرط فى التعريض بمعارضى نظامه فى لهجة تحريضية عصبية ضدهم، ولم يكن لدية أية مشكلة فى استخدام بعض أسماء معارضيه للتشكيك فى ذممهم وضمائرهم فى كلام مرسل لا يسمن ولا يغنى من جوع لم نسمعه من غير القيادات الفاشلة الجاهلة أمثال الراحل معمرا لقذافى، فلا هو قدم اتهامات محددة تستند إلى قانون حتى يتم الرد عليه والدفاع عن صاحبها، ولا هو اكتفى بالإشارة دون ذكر أسماء.
استخدم الرئيس المعانى وعكسها، فطيلة الخطاب ظل يتحدث عن احترامه التام للقضاء، فيما لن يخل أى جزء من أجزاء خطابه من التلميح والتهكم على أحكام البراءة التى نالها رموز النظام السابق، كما استفاض فى السخرية والتهكم على المعارضين لدرجة وصلت بالموجودين بقاعة المؤتمرات عدم فهم ما يقصد الرئيس وهل هو جَد أم هَزل مما جعله يقول لهم "آه والله باتكلم جد"، وكأن الرئيس وجماعته غير عابئين بما سيشهده الوطن وأبناؤه خلال 72ساعة من لحظة إلقاء الخطاب التاريخى.
لغة الاستجداء كان لها مكان متميز على لسان الرئيس، فالمبالغة فى الإشادة بمؤسستى الشرطة والجيش لم أجد لها تفسيرا غير الاستجداء، فضلا علامات عدم الثقة الواضحة جدا فى تكراره لجملتى "أنا القائد الأعلى للقوات المسلحة" و"أنا الرئيس الأعلى للشرطة"، وكأنه استجاب لوصفة الطبيب النفسى الذى نصح زبونة القصير بالثقة فى النفس عن طريق ترديد مقولة "أنا مش قصير أُزعة .. أنا طوييييل واهبل".
لغة التفاصيل المملة التى تحدث بها الرئيس أيضا لا تتناسب مع حجم الحدث، فاللحظة الفارقة لا تحتمل حديثا عن الموظف المسئول عن سكينة الكهرباء، ولا المواطن الذى يبيع (جراكن) البنزين خلف محطة البنزين، وحتى لو كانت تحتمل فمن غير المعقول أن شخصا أو اثنين أو مائة شخص يستطيعون بمفردهم اللعب بمقدرات البلد ومصادر طاقتها فى ظل حكومة كفاءات تؤدى واجباتها على الوجه الأكمل.
لغة اللامعقول سيطرت هى الأخرى بدورها على مجريات خطاب الرئيس الذى يُصِر على أنه وجماعته ثوريو الطباع، وأصحاب رسالة وطنية خالصة لوجه الله، وأنهم كانوا شجان ومغاوير فى مواجهة النظام السابق، لدرجة أن الرئيس مرسى ذاته قال للراحل كمال الشاذلى (أحد أكبر حيتان حكم مبارك) "أنتوا بتسرقوا البلد"، وهو أمر يتنافى تماما مع طبيعتهم التى يعرفها الجميع التى تميل إلى المهادنة وعقد الصفقات.
ولأن الرئيس ومن أعدَّ له الخطاب من مكتب المقطم لا يريدون ترك ثغرة فى منظومة الفتنة إلا وسدَّوها، فلم يسلم المرشح المنافس له فى المرحلة الأخيرة من الانتخابات الفريق أحمد شفيق من التعريض به، سواء فى قضية أرض الطيارين المنظورة، أو فى الطعن المقدم من المذكور على نتائج الانتخابات الرئاسية، متناسياً أن اسمه شخصياً مدون رسميا فى الكشوف المحوَّلة إلى النيابة للتحقيق بتهمة التخابر مع جهات خارجية وتهم أخرى. وللحق أقول إن هذا التعريض والإرهاب المعنوى أتى ثماره بسرعة مذهلة فى صبيحة اليوم التالى للخطاب بعد تنحى اللجنة العليا للانتخابات عن نظر الطعن المقدم من المرشح المذكور.
وبذلك يمكننا أن نعتبر أن الرئيس لم يلق خطابا للأمة، بل أعلن التعبئة العامة للمعركة الفاصلة يوم 30 يونيه، وقد أدى ما عليه من تقسيم الشارع وترسيخ الفتنة واستفزاز المعارضة وتجاهل الأقليَّات بشكل غير مسبوق تاركا منبره بعد أكثر من ساعتين ونصف بلا رسالة واحدة واضحة مفادها مصلحة مصر وحقن دماء المصريين.
الرئيس محمد مرسي
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة