محمود عبد الهادى ماضى يكتب: جنة البؤساء

الإثنين، 03 يونيو 2013 10:40 م
محمود عبد الهادى ماضى يكتب: جنة البؤساء أرشيفية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
يوم كبقية الأيام، لم يكن ينذر بشىء جديد، انطلقت فى الطريق التى اعتدت أن أقطعه كل يوم متجها إلى عملى، أنظر هنا وهناك، أتفحص بضائع المحال، أرغب هذا وأشتهى ذاك وأتمنى ذلك.

وبينما أنا على هـذه الحال إذا برجل يجلس على حـيد الطريق، يفترش الأرض، يرتدى ملابسه البالية المهلهلة، وقد شحب وجهه فغارت عيناه وظهرت وجنتاه، وكانت قد جلست بجواره هرة تتمسح به كأنه أبوها الحانى.

انتابنى شعور بالحزن والأسى عندما أطلعتنى الحياة على هذا المنظر، فما كان منى إلا أن مددت يدى إلى جيبى أتفحص ما بداخله من مال لأخرج من أقل ما فيه حتى أقدمه لهذا الرجل البائس.

توجهت نحوه تقدمنى إليه قدم الفرحة لما سأراه بعين الرجل من سعادة عندما أعطيه النقود، وتؤخرنى قدم الحزن على ما سأفقده من مال لطالما حرصت على جمعه لعله يلبى بعض رغباتى، ولكن يدى قد حسمت الموقف وامتدت نحو الرجل تقدم إليه تلك النقود.

عندها أمسك الرجل البائس بالنقود وتفحصها قليلا، ثم نظر إلى نظرة حزن ممتزج بعتاب، ثم ألقى بالنقود بعيدا غير مكترث بها، فانطلقت مسرعا نحو نقودى ألتقطها وأعيدها إلى جيبى، ثم ألقيت على الرجل نظرة تعجب مستنكرا ما فعل، وانطلقت فى طريقى.

شغلنى ما كان من أمر ذلك الرجل، لعلى أجد تفسيرا لما فعل، فهدانى عقلى إلى أن المبلغ ربما كان قليلا لذا لم يعبأ به، فعزمت على أن أزيد المبلغ بثلاثة أضعافه، وأقدمه لهذا الرجل بعد أن أنهى عملى عائدا فى نفس الطريق.

وتم لى ما أردت، ولم يكن من الرجل إلا أن فعل هذه المرة كسابقتها، وهرعت إلى المال ألملمه، ولم يطمئن قلبى إلا بعد أن جاورته النقود.. لم يذق جفنى فى تلك الليلة نوما إلا بعد أن جاد علىّ فكرى بما سأفعله بشأن الرجل فى الغد.

سلكت ذات الطريق، حاملا فى يدى طعاما كنت قد اشتريته بمال أقل من الذى قدمته للرجل من ذى قبل.. ومـا إن امتدت يدى إليه بالطـعام، حتى التقطه، ووضعه كله فى فمه، وشرع فى مضغه دون أن يبتلع منه شيئا، وهو ينظر هنا وهناك دون أن يعيرنى أدنى اهتمام، فثبت عند هذا الموقف.. وإذا بالهرة تسرع إليه، وكانت قد ابتعدت عنه قليلا، تنظر إليه وهى تموء وتتمسح فيه.

وإذا به يخرج ما فى فمه ويقدمه للهرة، فتمضى فى افتراسه، أما هو فقد امتدت يده إليها يمسح عليها كأنه يطمئنها، وبعد أن فرغت الهرة من طعامها وقد تركت منه شيئا قليلا، امتدت يد الرجل إليه فوضعه فى فمه ثم ابتلعه، انسللت من هذا الموقف باكيا، وعزمت على أن أكرر ما فعلته كل يوم.. ولم أزل على هذه الحال، حتى نمت بينى وبينهما صداقة دون أن يحدث أحد منا الآخر.

وذات يوم ذهبت إليهما حاملا فى يدى ما اعتدت حمله كل يوم، فلم أجد ذلك الرجل ولكنى وجدت الهرة تجلس مكانه، فقدمت إليها ما معى فعافته، وألقت إلى نظرة ثم حولت وجهها عنى، ففعلت ما كان يفعلـه الرجـل، فقمت بمضغ الطعام ثم أعدته إليها فلم تقربه، فظننت أن أحدا قبلى قدم إليها طعاما فشبعت.

وكان أمر اختفاء الرجل قد شغلنى فمضيت أسأل عنه، حتى أخبرنى صاحب أحد الحوانيت القريبة أن الرجل قد فارق الحياة ليلة أمس، فتأثرت كثيرا لذلك، وذهبت إلى عملى عازما على أن أعود إلى الهرة بعد أن أفرغ من عملى لأقدم لها طعامها، وأحضرت هذه المرة ما تشتهيه القطط من طعام.

اطمأن قلبى عندما ألقيت على الهرة نظرة من بعيد، فرأيتها نائمة فى المكان الذى اعتاد الرجل البائس أن يجلس فيه من ذى قبل، فأقبلت إليها وقدمت لها الطعام، فلم تتنبه لذلك، فقلبتها يمينا ويسارا حتى أدركت أنها فارقت الحياة هى الأخرى.

تُرى : أيهما قد مات للآخر !!






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة