على مدار عام شهد ملف المياه العديد من التقلبات والتحركات التى لم يشهدها على مدار سنوات طويلة تسببت فى دخول مصر إلى منعطف خطير قد يؤدى الى أزمات سياسية واقتصادية، وذلك بسبب تجاهل الرئيس محمد مرسى لهذا الملف الهام، بالرغم من تقارير جهاز المخابرات العامة ووزارة الخارجية، والتى حذّرته من دخول مصر فى أزمة كبيرة بسبب بناء سد النهضة، وطالبته بضرورة أن يقوم باتخاذ قرار سياسى تجاه تلك الأزمة قبل أن تتصاعد، لكن الرئيس لم يبد اهتماماً، وتفرغ للسيطرة على مقاليد الحكم على حساب الأمن القومى المصرى.
الخبراء المتابعين للملف يؤكدون أن الرئيس مرسى لم يضع خطة واضحة فى التعامل مع ملف الأمن المائى مستشهدين بموقفه عندما أجاب عن سؤال قبل توليه إدارة شئون البلاد حول خططه فى التعامل مع دول حوض النيل والأزمة القائمة لتقليل حصة مصر، قائلاً: "الأمطار والحصة هتزيد لدول حوض النيل، وهنرفع أيدينا إلى السماء ونقول يا رب وسنتعامل مع الكل بمبدأ التساوى والشراكة الأساسية ولا مجال للتعالى فالمصلحة مشتركة والأفارقة إخوتنا"، واعتمد على الدعاء دون تحرك منه لتنمية هذه الدول أو حتى كسب ودهم لوقف الحرب الشراسة التى تشنوها ضد مصر.
ووفقاً لتأكيدات الخبراء فإن مرسى وجماعة الإخوان المسلمين اتخذوا نفس خطى مبارك فى التعامل مع الدول الأفريقية، وهو ما يعكس أنهم لم يضعوا خطة واضحة للتعامل مع هذه الدول، مما أدى إلى حالة الضعف التى يشهدها الموقف المصرى حالياً، حيث أعلنت دول حوض النيل حربها ضد مصر، وقرر عدد من الدول اعتزامها بناء سدود على النيل، بعد إعلان إثيوبيا عن البدء الفعلى فى بناء سد النهضة على النيل الأزرق، على الرغم من عدم انتهاء اللجنة التى تم تشكيلها لدارسة آثاره على مصر، وجاء هذا القرار فور عودة الرئيس محمد مرسى من زيارته لـ"أديس أبابا"، وهو ما اعتبره المراقبون إحراجاً للقيادة السياسية المصرية، وضربة لدعاة التفاوض مع إثيوبيا.
وبعد ذلك أعلنت أوغندا عن اعتزامها بناء سدود على النيل وتم إجراء مناقصة وفازت مؤسسة إيسكوم الجنوب إفريقية لمشروعات الكهرباء بامتياز عمل مدته عشرين عاما لإنشاء محطات توليد كهرباء فى منطقة جينجا بشرق أوغندا على أحد روافد نهر النيل، وستقوم الشركة الجنوب إفريقية بتنفيذ تعليات وأعمال تطوير لسدين فى منطقتى "كييرا ونالوبالي" شرق أوغندا لإنتاج الكهرباء اعتماداً على قوة المياه، وستقوم برفع قدرة التصريف للسدين من 800 إلى 1000 متر مكعب فى الثانية الواحدة.
وقالت الحكومة الأوغندية إنه بموجب امتياز العمل الذى حصلت عليه الشركة الجنوب إفريقية سيكون لها الحق فى استخدام حصص مياه إضافية من بحيرة فيكتوريا لتعزيز قوة اندفاع المياه فى رافد النيل الذى يقع عليه السدان، وذلك للحفاظ على معدل توليد ثابت للكهرباء تصل فى الوقت الراهن إلى 250 ميجاوات تتم مضاعفتها إلى 490 ميجاوات.
وفى تنزانيا، أعلنت هيئة الكهرباء الوطنية عن قرب انتهائها من إنشاء سد دودوما الذى دخل فى مراحل إنشائه الأخيرة لإنارة ألف قرية ريفية قبل نهاية العام الجارى.
وبعد مرور أقل من شهر على تحويل مجرى نهر النيل والبدء فى بناء سد النهضة الإثيوبى أعلنت الحكومة الإثيوبية تصديق برلمانها على الاتفاق الإطارى التعاونى، الذى تم التوقيع عليه عام 2010، والمعروف باتفاقية "عنتيبى"، والتى رفضتها دولتى المصب مصر والسودان، وهو ما يعتبر تهديداً مباشراً للأمن القومى المصرى، وخطراً يهدد حصة مصر السنوية البالغة 55.5 مليار متر مكعب سنوياً.
وتؤكد المؤشرات حتى الآن، حسم جنوب السودان رأيها فى النزاع والخلاف القائم بين مصر ودول منابع النيل، حول اتفاقية "عنتيبى"، بتصريحات وزير مياهها وسفيرها فى القاهرة، بأنه من مصلحة مصر الانضمام للاتفاقية، وعدم الممانعة فى التوقيع عليها، وأن بلادهم لا علاقة لها باتفاقية عام 1959، وهو ما يعنى ضعف موقف دولتى المصب "مصر والسودان"، بانضمام الدولة الوليدة لباقى دول حوض النيل، ويصبح إجمالى الدول الموقعة على الاتفاقية 7 دول يمكنهم بعدها إنشاء المفوضية والتحكم فى مستقبل مصر المائى.
المتابعون للملف يؤكدون أن توقيع جوبا سيكون بمثابة القشة التى ستقصم ظهرى مصر والسودان، فهى بذلك ستصبح الدولة السابعة الموقعة على الاتفاقية من دول الحوض الـ11، بسبب خلافاتها المستمرة مع حكومة الخرطوم، رغم تمسك مصر والسودان والكونغو الديمقراطية برفض التوقيع، فى حين لا تزال دولة إريتريا "مراقبة" فى المبادرة، وبالتالى فإن هذا التوقيع يمثل تهديداً جديداً لمصر بعد توقيع 6 دول على اتفاقية تقسيم مياه النيل وعدم اعترافها بالاتفاقيات القديمة، وهو ما يعنى أنه من الممكن انخفاض حصة مصر السنوية، التى قررتها اتفاقية 1959، والمقدرة بـ55.5 مليار متر مكعب، كما أنه بانضمام جنوب السودان للدول الست الموقعة، سوف يتأثر موقف مصر التفاوضى وتزداد الأمور تعقيداً، خاصة أن هذه الدول تعتزم طرح الاتفاقية على برلماناتها لدخولها حيز التنفيذ قريباً، وبالتالى ستمضى فى طريقها للتصديق على الاتفاقية وبعد ذلك يتم إنشاء المفوضية والعمل بها على أن تكون ملزمة للدول الموقعة عليها فقط، وبالتالى سيقيمون المشروعات التى يرغبونها دون العودة للدول الأخرى التى لم توقع مصر والسودان كما حدث مع سد النهضة.
وأكدت مصادر رسمية بملف النيل، أن تفعيل الاتفاقية الإطارية سيؤدى إلى دخول الدول الموقعة عليها فى مفاوضات للوصول لاتفاق محدد بشأن تقاسم مياه النيل بين الدول المنتفعة، وبينما تقول دول الحوض إن الاتفاقية التى تتمسك بها مصر غير منصفة، وأن الاتفاقية لا تأثير لها على السودان، لأنها لا تستند على السياسة الزراعية ولا تمثل مصدراً لخزينتها المائية كدول أخرى.
الخبراء يؤكدون أن الرئيس وحكومة الدكتور هشام قنديل، لم يتخذا موقفاً رسمياً فى التعامل مع دول حوض النيل حول الاتفاقية الإطارية "عنتيبى"، أو حتى المطالبة بإيقاف بناء سد النهضة الإثيوبى، الذى يهدد حصة مصر من مياه النيل، مشيرين إلى أنه لا يوجد حتى الآن تحرك رسمى فى التعامل مع إثيوبيا، وهو ما يعكس غياب الرؤية فى الحفاظ على الأمن القومى المصرى.
وتؤكد المؤشرات أن تصديق دول حوض النيل على هذا الاتفاق سيؤثر بالطبع على حصة مصر من المياه مستقبلاً، لأن تلك الدول لن تعود إلى مصر قبل إنشاء أى مشاريع مستقبلية، بل على العكس قد تسرع فى إنجاز هذه المشاريع خلال الأعوام المقبلة بفعل أموال ومساعدات فنية صهيونية وأمريكية بهدف ضرب أمن مصر والسودان والضغط عليهما، خصوصاً أن هناك مشروعاً أمريكياً قديماً منذ خمسينيات القرن الماضى يستهدف بناء 33 سدداً فى إثيوبيا، بعضها بخبرات "إسرائيلية" وصينية.
ولنا جميعاً أن نتصور هذا الكم الكبير من السدود وقدرتها على تخزين كميات هائلة من المياه حتى ولو كانت مخصصة للطاقة الكهربائية، وبالتالى منع أو عرقلة وصول كميات منها إلى مصر، التى لا يصلها حالياً سوى 55 مليار متر مكعب من المياه، الرأى القانونى يطالب الحكومة بضرورة تمسك مصر بالحقوق التاريخية لها بمياه نهر النيل والتمسك بأحكام القانون الدولى المتعلقة بإقامة مشروعات على مجارى الأنهار والتشاور بين الدول المتشاطئة واللجوء إلى التحكيم الدولى كسبيل للحل والتماس الرأى الاستشارى من محكمة العدل الدولية وإلى مجلس الأمن الدولى لاختصاصه بهذه القضية.
أكد الدكتور حسين العطفى وزير الرى الأسبق أن قضية المياه لم تحظى بأى اهتمام فى عهد الدكتور محمد مرسى وما قبله، على الرغم من أنها لابد أن تأخذ الأولوية فى الأجندة السياسية وتحصل على دعم سياسى حتى تحقق الطموحات المصرية، ولأن أمن المياه لا يقل أهمية عن الأمن القومى، فلم يعد قائماً على الجانب الإستراتيجى وحده.
وأضاف العطفى فى تصريحات خاصة لـ"اليوم السابع"، أن مصر أمامها خطوات هامة فى هذا الملف لابد أن تتبعها وهى أن يتم وضع هذا الملف فى الأجندة السياسية، وإنشاء كيان مستقل لإدارة هذا الملف الحساس، ويكون شاملاً لكافة التخصصات، والتحرك على المستويين الداخلى والخارجى، ونقل المواطنين من ثقافة الوفرة إلى ثقافة الندرة المائية والتحرك مع المجتمع الدولى والمؤسسات المانحة والمنظمات الإقليمية والإرادة الشعبية فى إطار دبلوماسى سياسى للتفاوض مع دول حوض النيل، حول شريان الحياة بالنسبة لمصر، وفى حالة عدم الاستجابة يمكن استخدام الوساطة والمساعى الحميدة، وإذا لم تستجب فلابد من إعداد ملف قانونى يدعم موقف مصر أمام الجهات القانونية الدولية، كمجلس الأمن ومحكمة العدل الدولى، والتنديد بالموقف العدائى الذى اتخذته دول حوض النيل تجاه مصر.
كما طالب العطفى تطوير الخطاب الإعلامى، والتأكيد على أن مصر لا تمتلك مصادر مائية بديلة تعتمد عليها لتحقيق التنمية الشاملة للبلاد، مشيراً إلى أن مصر لديها مطالب عادلة فى زيادة مياه النيل الذى يوجد به طاقات مائية كبيرة لم يتم استغلالها حتى الآن.
وأضاف العطفى، أن الأمر يتطلب تحركاً مصرياً كبيراً له رؤية إستراتيجية واعية تجاه القادة الأفارقة مجدداً، والتعاون العربى الأفريقى، لتوفير التمويل، ثم حوض النيل على وجه الخصوص، ولذا لابد من تحرك مصرى منسق بين جميع هيئات مصر المسئولة للوجود الفعال فى جنوب وشمال السودان سياسياً واقتصادياً وثقافياً، بالإضافة إلى دور الكنيسة والأزهر، ورجال الأعمال، حتى لو أصبحت اتفاقية عنتيبى سارية، فسيظل جنوب السودان كنز مصر والسودان، لذا ينبغى أن تسعى مصر على ألا تسوء العلاقة بين الشمال والجنوب من خلال التهديدات بالسلاح والقبلية وتخريب العلاقات بين دول الحوض.
وطالب العطفى بضرورة وضع تشريعات لاستخدامات المياه الجوفية والحد من الاستنزاف والسحب الجائر لها، وكذلك الحفاظ على نهر النيل ومعاملته معاملة أدمية، وحشد الجهود قبل حشد الجيوش دون المساس بالمصالح المصرية لأن الأجيال القادمة ستحاسبنا على ما نفعله فى حق النيل.
وأكد العطفى أن التحرك على المستوى الدخلى لا يقل أهمية عن التحرك فى المستوى الخارجى، حيث إننا نحتاج إلى البحث عن مصادر مائية جديدة، مثل تحلية مياه البحر وهو ما تم تنفيذه فى المحافظات الساحلية، حيث إننا أصبحنا تحت خط الفقر المائى وانخفضت حصة الفرد السنوية من المياه إلى 625 متراً من المياه، لذلك لابد من الترشيد فى الاستهلاك.
وأشار العطفى إلى أن مصر تقوم سنوياً بشراء من 15 إلى 20 مليار متر مكعب من المياه فى صورة غذاء بحوالى 7 مليارات جنيه، حيث إننا نعانى من فجوة غذائية، لذلك لابد من مراجعة السياسات الوطنية.
أزمة مياه النيل فى زمن الإخوان.. مرسى تجاهل تقارير المخابرات والخارجية عن سد النهضة.. هشام قنديل فشل وزيراً للرى ثم رئيس وزراء فى حل الأزمة.. الخبراء: مرسى لم يضع خطة واضحة فى التعامل مع ملف السد
السبت، 29 يونيو 2013 06:17 ص