السماء هى السماء، والشمس كعادتها تعانق الأرض بنورها، ودفئها، وتطل من برجها العاجى..
أما الأرض ما زال ثراها يحتفظ ببعض من رذاذ الأمطار وندى الصباح، وفى حديقة بيتنا
شجرة "الدالية" تعيش على رطوبة الثرى، وكان أبى يوبخنا بشدة إن سقيناها بالماء لأنها تعيش على تلك الرطوبة.
كانت أختى الكبرى كعادتها فى تدوين كلمات الصباح على دفترها الذى تحتفط به منذ زمن تعدى العشرين عاما، تخط أى شئ يخطر فى بالها .. وكنا نحسدها على ذلك، فالقلم ينساب بسهولة على صفحة دفترها البيضاء يخط كلماتها .
تنظر إلى السماء ...مازالت صافية تحتفظ بزرقتها، والعصافير توشوش النسمات الرقيقة بسعادتها، كل ما حولها سعيد وعلى حاله إلا هى .
عيناها تحدقان فى اللاشىء، وتتسع حدقتاهما السوداوان وكأنهما رأتا شيئا ما، و يصيبها الذهول من جديد، فعالمها المغترب ضيق فى ثنايا الوطن، كل شىء حولها فاقد لمعناه، ولم يعد- كما تقول- هناك شىء على حاله سوى الأرض والسماء ...!!
قالت ذات مرة إنها ستحاول التمرد على واقعها ...ستترك ذكرياتها الجريحة ولن تلتفت إليها ستنهض من سباتها ...وتخرج من صومعتها التى سجنت فيها ...ستتمرد على نفسها، ستنهض الآن…!!
الآن… ستنهض… وتفيق من غفوتها الطويلة، وأنها ستعود لتحلم، وقالت بصوت يشبه الصراخ: سأتمرد على نفسى..سأتمرد !!
أصابنا صراخها الذى يشبه العويل بالخوف، والرهبة والبكاء والقهر معا، فخوفنا عليها كان بعدد الأيام التى قضتها وهى تندب حظها العاثر فى زواجها الفاشل..!!
وقهرنا كان بفعل دموعها التى كانت تبلل وسادتها وهى تبكى فراق أطفالها الذين حرمت من رؤيتهم إلا فى نهاية كل شهر.
اختلطت علينا أمورها بعد هذا السجن الطويل ما بين جدران صومعتها، وأوراق دفتر ذكرياتها الصفراء، فعوامل التعرية التى أصابت أوراقه داهمت أيضا جسدها النحيل...
لم تكن هذه هى المرة الأولى التى تحاول أن تصحو من غفوتها العميقة كما قالت أمى … وكثيرا ما سمعت أمى تقول "حسبى الله ونعم الوكيل، حرموها من ضناها الله يحرمهم مثل ما حرموها".
كل مرة كانت تهيج مشاعرها بالشوق لأبنائها كانت تنتحب فى غرفتها، تحاول جاهدة ألا تظهر حتى مشاعر الحب تجاههم.
فجدتى كانت تلومها قائلة " هى كل يوم بدها تلاقى لها زوج، ايش بده يصير لو صبرت شوية، هى أم محمد جارتنا كان يسبّغها زوجه امن الضرب وصبرت عليه، وهى أولادها كبروا وما عاد يستجرى يعمل لها شيئا" .
وما زلت أذكر يوم عادت إلى بيتنا محطمة الفؤاد، وآثار كدمات على جسدها النحيل كرهت حينها كل الرجال، وقلت يومها لأمى رغم حداثة سنى "أنى لن أتزوج أبدا حين أكبر".
ولكننى أحسست هذه المرة أن شيئا ما يلوح فى الأفق، فأنا ورغم تباين العمر بيننا إلا أنى أحس بقربى منها، وكثيرا ما نقلت لها الأحاديث الصفراء التى تلوكها الألسنة عنها، وعن فشلها فى العيش بسلام مع زوجها اللعين..!!
كنت أحبها كثيرا ولم أكن أعلم أن نقلى تلك الأحاديث كانت سببا فى تورم عينيها حتى اليوم التالى.
أحس أن شيئا ما يتأهب داخلها لا أدرى إن كان محاولة جادة للتمرد، أم أنها قد تكون ثورة قهر!!
إلا أنى أتشوق لحصول تغيير قد يطرأ على حياة أختى، يسعدها ويغير خارطة أحزانها التى أثقلت دفتر مذكراتها ..
وأنا بدورى سأفى بوعدى لها بإحضار دفتر مذكرات وردى اللون عل حياتها تتشرب لونه وتصبح أقل دموعا وأكثر إشراقا.
صورة أرشيفية
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد اشرف
مسجد القدس
يارايس مرسى