محمد جاد الله

فريضة بناء السلام المجتمعى "التائهة" (٢)

الأحد، 02 يونيو 2013 10:53 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فى اليوم التالى للمقابلة مع مدير هيئة الصليب الأحمر، فى مدينة سالزبورج، كانت بين يدينا فى اجتماع فريق الوساطة بمؤسستنا جميع الأوراق المطلوبة، وأهمها تفاصيل بروتوكولات عمل المسعفين المقسم بالدقائق منذ تلقى مكالمة الاستغاثة، وحتى عودتهم لنقطة الانطلاق.

واستمر بعدها العصف الفكرى ووضع خطة العمل مدة ثلاثة أيام، من أجل التعامل مع أبعاد الأزمة مع أسر الجالية التركية التى ترفض أن يمس المسعف المصابة أو المريضة، لكونه رجلاً أجنبياً عنها.

الأزمة فى جوهرها صنفت بداية كأزمة بين مؤسسة دولة وبين وشريحة مجتمعية، ولثبات وقوة مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدنى فى النمسا، فإنه من البديهى هناك أن المؤسسات ملزمة أدبياً بالمبادرة لحل النزاعات، سواء كانت النزاعات مع أفراد أو مع شرائح أو فئات.

وتبين لنا كوسطاء استحالة القيام بعملية وساطة "Mediation" بالمواجهة المباشرة بين الأطراف، لأننا سندخل جميعاً فى دوامات من سوء التفاهم، بسبب نقص الخلفيات عند كل طرف من أطراف النزاع عن دوافع ومنطلقات الآخر حيال الأزمة القائمة، وسوف تُستهلك عشرات الساعات فى حوارات تمثل إرث قرون من تراكم سوء الفهم المجتمعى، تنشط فيها ميكانيزمات الدفاع النفسية عند كل طرف تجاه الآخر دون الوصول إلى نتائج، مما قد يعصف بعملية الوساطة برمتها.

لذا جاء القرار الجماعى لفريق الوساطة بحتمية القيام بعملية توفيق ومصالحة "Conciliation"، نعمل فيها على وضع كل طرف أمام مسئولياته عن سوء التواصل دون التجاء لجلسات عامة.

وكانت البداية مع الجانب التركى..
ولأن الالتزام الحرفى بخلط ما تقره الأعراف المجتمعية فى قرى الوسط والجنوب التركى بصحيح المذهب الحنفى السائد فى الدولة التركية، كان هو المحرك الأساسى للتصرفات المستهجنة تجاه أطقم المسعفين التابعين لمنظمة الصليب الأحمر، فقد كانت الخطوة الأولى فى احتواء الأزمة وحل الصراع تستهدف التواصل مع رؤوس الشأن الدينى للجالية، وهم فى المقام الأول قنصل الشئون الدينية بالقنصلية التركية فى سالزبورج، وأئمة المساجد التركية فى المدينة وضواحيها.

ولأن أثر الصور الذهنية والانطباعات المسبقة، إضافة إلى تقييم أى موقف أو إنسان يخل بمصداقية الوسطاء ويبرز عدم التزامهم بوضع حيادية الطرف الثالث فى التعامل مع الأزمات، فقد تطلب الأمر حوارات مكثفة فى شكل عصف فكرى مع الجانب التركى ممثلاً فى قنصل الشئون الدينية وخمسة من الأئمة من ذوى التأثير المجتمعى فى دوائرهم.

توصلنا فى النهاية إلى صياغة بروتوكول عن أبعاد مسئولية الطرف المسلم التركى فى احتواء التصعيد، شمل النتائج التالية:
- عقدنا ورشة عمل مكثفة للأئمة تم فيها تشريح بروتوكول عمل أطقم المسعفين، كى يتعاظم لديهم التفهم للنظام السائد فى قطاعات الدولة، ويستطيعون من خلالها إجابة أسئلة واستفسارات أفراد الجالية بموضوعية.

فقد تكشف لنا من خلال الحوارات أن أحد أهم أسباب الصراع الكامنة، يتمثل فى أن الطرف التركى الأصل، كان يحلم بفكرة مسيطرة مفادها أن الضغط قد يؤدى إلى أن تخصص هيئة الإسعاف طواقم مسعفات نسائية لرعاية السيدات التركيات المصابات.

وبعد اطلاعهم على دقائق عمل الهيئة، وجداول توزيع عمل المتطوعين المعقد، أدركوا تدريجياً أن تنفيذ ذلك الحلم لا يمكن الوصول له بالضغط والاحتجاج على المدى القصير، بهذه الخطوة وُضِعَت الرؤوس من الجانب التركى فى مسؤوليتها الأدبية.

- اتفقنا على التركيز فى خطبة الجمعة فى المساجد على قيم الاندماج المجتمعى فى الإسلام، ومن أهمها إحسان الظن بالآخر غير المسلم، وحرمة التعالى والتفاخر بالجنس أو القومية، والتركيز على تعميق إدراك الجالية لمغزى القاعدة الفقهية القائلة، بأن "الضرورات تبيح المحظورات"، وذلك فى الحالات العلاجية الحرجة.

- اتفقنا على إعلام الجالية بأن العمل على حل الصراع يجرى على قدم وساق بين الأطراف، وبموضوعية المبادرة التوفيقية من جهة الدولة، كى يتفادى أبناء الجالية الفخاخ الإعلامية، التى قد تستغل عدم الوضوح وفقر التواصل القائم.

وبتلك الإجراءات ضمن الوسطاء أنهم قاموا بالنفخ السليم فى "قربة" طرف أصيل فى الأزمة، بمساعدته على القيام بمسئولياته أمام الله وأمام الضمير الإنسانى والمجتمع، دون أن يشغلهم التفكير لحظة فى كون القربة مقطوعة من عدمه، فخبراء حل النزاعات لا يضمنون نتائج، ولا يتحملوا مسئولية عن طرف، ولا يدفعون فواتير حساب إخفاق الأطراف فى القيام بمسئولياتهم، بل يعملون على حل الصراع بقوة الموضوعية والعلم وعدم التقييم المسبق.

أما عن الطرف المتمثل فى هيئة الصليب الأحمر، فقد كانت الترتيبات لإدماج عناصر تواصل إنسانية تتوائم مع ثقافة الأسر التركية وخلفياتهم، فى "دليل عمل" صارم يلتزمون به على مستوى الدولة، تمثل عملية نوعية ذات أبعاد مختلفة.

وإلى المقالة القادمة بإذن الله..









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة