كان الأستاذ «نصر توما» مدرس الحساب إنسانًا جادًّا وصارمًا لا يسمح بالخطأ، ولو على سبيل السهو.
وقد أدرك الأستاذ توما، منذ وقت مبكر، أن عبدالرحمن والحساب لا يلتقيان، فصار عبدالرحمن مقصد أستاذ الحساب دائما، فكان أول من يوجه إليه الأسئلة، وينتظر جوابه الخطأ، ليقول له قولته الأثيرة إلى قلبه «عبدالرحمن.. اقلب إيدك» ليضربه بسن المسطرة على ظهر اليد فى أيام الشتاء القارس، حتى يفقد إحساسه بيده التى لا يستعيد عافيتها قبل مرور حصتين على الأقل، لدرجة أنه كان يعتقد أن فكرة البنج أخذوها من مسطرة الأستاذ توما!.
الأستاذ توما كان مندهشا من حال عبدالرحمن الذى يعلم أنه متفوق فى كل المواد، لذلك سأله ذات مرة: «لماذا أنت مُصر على أن تعادى الحساب وتعادينى؟ هل لأنك تكرهنى؟.. الحساب علم سهل فلماذا تصر على مقاومته؟».
وجاء رد «عبدالرحمن» قاطعا لآخر خيط فى علاقته بأستاذه، فقال: «يا أستاذ، مادتك هذه يهتم بها أبناء البقالين أو من ينوى أن يتخرج كاتب شونة، يحب الولد منا المادة كمحبته لمدرسها، وأنت أيها القاسى الذى تضربنى على ظهر اليد بسيف المسطرة من المستحيل أن أحبك، وبالتالى لن يجبرنى أحد على أن أحب حسابك، لا شك أن أحدهم كان يضربك فجئت هنا لترد لهم ضربهم لك على ظهر كفى».
من يومها، كلما دخل «نصر توما» الفصل، ورأى عبدالرحمن طرده خارج الفصل حتى يرسب، لكن رغم ذلك نجح الأبنودى رغما عن أستاذ الحساب، وغادر إلى المدرسة الثانوية، وحتى الآن مازال يكره الحساب، لكنه ليس وحده، فأغلب المبدعين كرهوا هذه المادة، لذلك سألت الخال عبدالرحمن الأبنودى عن سر كراهية عدد كبير من المبدعين العظام للحساب، فقال: المبدع بطبيعته يملك عقلاً حرًا، ولا يمكن أن تضعه فى قالب ثابت، لذلك يأتى له الحساب مثل «عفريت العلبة»، كله مربعات على مثلثات، ورموز مش مفهومة، ويدخلك فى عالم هندسة مقفول، وأنت العالم بتاعك حر، وتجد الشاطر فى الحساب ميعرفش حاجة غيره، أما العربى براح».
لم تختلف نظرة الأبنودى للحساب، رغم مرور سنوات طويلة جدا تغير فيها كل شىء تقريبا، لكن مازالت هذه المرحلة محفورة فى وجدانه، وخاصة حين ذهب إلى مدرسة قنا الثانوية التى عرف فيها طريقه، وحدد فيها هدفه بالصدفة!
هناك، وتحديدا، فى عام 1956 حدث العدوان الثلاثى على بورسعيد، وقتها أعلنت المدرسة أنها ستقوم بالتعاون مع الجيش بتدريب الطلاب على السلاح حتى يستطيعوا الاشتراك فى المعركة، فسارع عبدالرحمن، ومعه أمل دنقل، بالاشتراك فى التدريب فى «حوش المدرسة»، وبالفعل ظل التدريب قائمًا عدة أيام حتى أجاد الاثنان التعامل مع السلاح، لكن بعد انتهاء فترة التدريب تم إبلاغهما أنهما سيعملان فى الدفاع المدنى.
فطغى الحزن على أمل وعبد الرحمن، وشعر كلاهما أن لديه ما يريد أن يقوله، فوجد كل واحد منهم نفسه يكتب قصيدة، وكانت أول مرة يكتشف فيها كلاهما أنه يمكن أن يكون شاعرا، وقرأ كل واحد منهم قصيدته للآخر، وكانت القصيدتان باللغة العربية الفصحى، وبعد أن انتهيا من القراءة قالوا معا «طالما شالوا السلاح هنحارب بالقصيدة».
فى هذه الأثناء التى كان فيها عبدالرحمن مازال طالبًا فى المدرسة الثانوية دخل إلى فصله مدرس قادم من القاهرة، وقال: «أنا اسمى توفيق حنا، وهدرس لكم فرنساوى»، وشاء القدر أن يكون الأستاذ توفيق بمثابة نقطة التحول الأهم فى حياة الأبنودى!