من كان منا يصدق أن المصرى ابن البلد الذى كان يلقى السلام على أهل شارعه وحارته ويلتقى مساء بهم يتسامرون على المقهى "لوش الفجر"، يصير إلى أن يحمل عداء تجاه أهله وحارته وشارعه ويتشاتمون ويتسابون ويتعاركون بـ"المطاوى" وربما بالمولوتوف، لأن منهم يمينى ومنهم يسارى ومنهم "بين البينين".. لذلك أدعوك، عزيزى القارئ، أن تشاركنى التأمل والتفكر والمقارنة فى هذا الأمر.
فقد نمت فكرة الاختلاف وتزايدت، وكنا نحسبها خلافا عابرا حتى اتسعت الفجوة وكبرت الهوة بين المتمرد والمتجرد، والمؤيد والمناهض، والمحب والكاره، والمصفق للنظام واللاطم على خدوده ندبا وندما، والمادح والهاجى، والشاكر على اختياره واللاعن "سنسفيل اليوم الذى عصر فيه الليمون"، والمشمر عن سواعده للدفاع والمشمر عن مولوتوفه فى الهجوم، حتى باتت مصر مقسمة نظريا، ويبقى فقط تقسيمها عمليا وغارقة تهوى فى بحر واسع عميق من الكراهية المتبادلة، أصيب فيه الجميع بالعجز، فالدولة عاجزة عن المضى للأمام، والمعارضة عاجزة عن الإتيان بحلول أفضل، سوى شعارات جوفاء وضجيج فارغ.
فأين إنقاذ مصر الذى يرفعون لافتاته؟ وهل هم يعرفون ما يجب عمله مستقبلا؟، وارتدت الحرب الأهلية رداء أنيقاً آخر موديل بعيدا عن رداء الرصاص والقنابل والكلاشنكوف والجرينوف، رداء أعدته بعناية لترتديه فى 30-6 وينتظر الجمهور مشاهدته كما ينتظرون واحدة من مباريات القمة، رداء رشيقا، لكنه يؤدى "الغرض" فى استنفاذ طاقة البلاد وتعطيل الاستثمارات والسياحة وقضاء حوائج غلابة مصر الذين تفاءلوا خيرا بالثورة، وربما تنزع الحرب الأهلية عنها الرداء الأنيق، إن لم يجد صداه المنشود، ليحل محله رداء آخر أشد تأثيرا، وهو رداء بداية النهاية لمصر وتحالف شعبها، رداء الكر والفر بالسلاح، فلن يرضى طرف عن الآخر، ليعلن كل طرف بعدها: إما الفناء وإما البقاء.
الأحوال فى مصر وتقلباتها وما يطرأ على تصرفات أولى الأمر ونخبتها وطوائفها وأحزابها كل شروق شمس من عراك وخلاف وشد وجذب تحكمهما الكيدية والنفعية والجهل والتربص والاستئثار بالقرار والعجز عن الحوار وغض البصر والطرف عن مصلحة البلاد والعباد والاهتمام بالمصلحة الفردية تدفع المرء إلى أن يعود بذاكرته إلى مرحلة المراهقة التى يمر بها خلق الله، وقد دهشت وعجبت لمطابقة مرحلة المراهقة وعلاماتها وأعراضها ومشاكلها على أهل قيادة مصر سياسيا ونخبويا وطائفيا مطابقة عجيبة، وعجبت كيف يصاب كل هؤلاء بالمراهقة، وقد بلغوا مبلغهم من العمر، ومنهم من أصبح فى أرذله!.
ولأن المراهقة مرحلة خطيرة يمر بها الإنسان ضمن أطواره المختلفة وقد تغيب عنه فيها علامات الوعى والإدراك والتقدير والحكمة فى التعاطى مع المشاكل، ولأننا لا نجد مما نراه حولنا علامة واحدة من علامات التعقل والوعى والحكمة أتساءل: أليست كل هذه علامات مراهقة سياسية تجلب الكوارث؟.. فالقيادة السياسية تشكو مر الشكوى من مخططات تدمير مصر والتربص بها من فلان وعلان، فلماذا لا تعلن الدولة صراحة ويقف الرئيس متحدثا عن هذه المخططات ليؤيده المصريون ويقضون على هذا العدو المتخفى المجهول؟.. وكيف يرضى راعى الدولة ورئيسها عن ضياع قوت الملايين العاملين بالسياحة الذين يتسولون اللقمة ولايولى أدنى اهتمام إزاء مصيرهم؟..
الحكومة غيرت بعض الوزراء، وأعلنت اعتذار الكثيرين من الكفاءات عن قبول مناصب فى الوزارة، ولم تعلن أسماء المعتذرين الرافضين للتعاون مع الإخوان، فلماذا لا تعلنها؟.. وإلى متى يكون الشعب آخر من يعلم؟ وإلى متى تحيط الأسرار والألغاز الحياة المصرية فيصير التواصل بين الرئاسة والشعب مبتورا منفصلا؟.. وما سر الإقالات والاستقالات المتتالية من مستشارى الرئاسة وتصريحاتهم السلبية عن الرئاسة؟.. ولماذا لا يزور الرئيس محافظات مصر خاصة السياحية منها؟..
الأحزاب الإسلامية تتمادى فى استنفار المعارضين بإصدارهم، بمراهقة شديدة، التحريمات المتتالية حتى أصيب المصريون بالاستياء والتعجب لهذه العجلة التى لم ينتهجها الرسول الكريم فى دعوته التى استغرقت ثلاثة عشر عاما قبل أن يمنع عن المسلمين عادات اعتادوها، ليزداد المتشددون تشددا ويزداد المعترضون اعتراضا، ويفترقان كحافتى مقص يمزق التحام الشعب ويقطعه إربا إربا..
ومكمن الخطر فى مرحلة المراهقة هو فى التغيرات الفسيولوجية الانفعالية والعقلية والدينية والخلقية، فتمثل نموا بركانيا مشتعلا إذا لم يصادفه توجيه عاقل حكيم، وهذا ينطبق تماما على ما نراه فى طوائف مصر، المصابة بالمراهقة، بعد التغيرات النفسية التى أحدثتها الثورة، فأصبحت كل الطوائف تنادى بحقوقها المسلوبة فورا دون تأجيل ولا تسويف، فاشتعلت براكين المطالبة بالحقوق المسلوبة منذ مئات السنين، وعلى الدولة تلبية المطالب فورا وإلا اعتبر النظام فاشلا ساقطا!.
المراهقون لا يتوافقون ولا يعرفون اختلاف الجنتلمان بوجوه مبتسمة متصافحة، لكنه مادام خلاف فهناك سب ولعن ومولوتوف وإسقاط، والنتيجة دستور غير توافقى، مجالس نيابية مطعون فى نزاهة انتخابها، الدعوة إلى انتخابات رئاسية مبكرة، ليأتى رئيس جديد يدعو الآخرون لعزله، ثم إعادة الانتخابات ثانية، ثم الذى يليه ويليه، وكأنها لعبة مسلية، هكذا يفكر المراهقون..
وإن أعراض المراهقة تختلف من بيئة إلى أخرى حسب جغرافيتها وحسب أنماطها الحضارية، وبمعنى آخر حسب القدرات العقلية والفكرية التحضرية، فهناك مجتمع بدائى وهناك مجتمع متحضر، ومجتمع متزمت ملىء بالقيود والأغلال ومجتمع حر تكثر فيه فرص العمل والنشاط وإشباع الحاجات بدوافع مختلف، فإن طوائف المجتمع المصرى عبرت عن مراهقتها بطريقتها، فهناك من يقطع الطريق ويعطل المصالح، وهناك من يحرق مقرات الحزب المضاد ويسب له الملة صباحا مساء، وهناك من يفتعل الأكاذيب المتتالية دون حياء ولا كسوف من وضوح كذبه واختلاقه فهل تكون هذه الأفعال إلا مراهقة.
ومرحلة المراهقة تتأثر بمرحلة الطفولة بما ناله المراهق من إرشاد وتعليم فماذا تعلمنا فى مدارسنا وجامعاتنا ليلهمنا ترتيب الأفكار والمشاعر والأولويات، وهل سعت الدولة سابقا من خلال العملية التعليمية إلى توسيع القدرات وتعميقها للوصول إلى مستوى مرتفع من الفكر، وهل سمع واحد من تلاميذنا عن التنمية البشرية.
فكل ما تشهده ساحة الصراع الآن هى نتيجة عجز الدولة فى الماضى عن تحسين نوعيات الموارد البشرية وتنمية قدراتها لتصل إلى مرحلة النضج وتقضى على مرحلة المراهقة المدمرة لكيان الدولة كما نرى الآن.
ومن أنواع المراهقة "المراهقة الانسحابية"، حيث ينسحب المراهق من المجتمع مفضلا الانعزال والانفراد بنفسه، ويرفض التعاون مع الآخرين ليتأمل ذاته ومشاكله وهذا ما يقوم به ما وصف بحزب الكنبة، فالبعض أصبح متفرجا كما هو فى ملاعب الكرة، يشجع اللعبة الحلوة ويصفق لها، كذلك انسحاب المعارضين من الحوار مع الدولة بحجة أنها دولة الإخوان ويعجزون عن مبادلتهم الحجة بالحجة فى حوار علنى حضارى، حتى فى مسألة تهم أمن مصر كسد إثيوبيا تباعد الجميع وانصرفوا كصبية تحكم المراهقة تصرفاتهم، فيستأسد بعضهم على بعض أمام كاميرات الفضائيات.
وهناك أيضا مراهقة عدوانية يعتدى فيها المراهق على الغير، وربما على نفسه وحاجاته ومصلحته الشخصية دون قصد، يدمر فيها كيانات يندم على تدميرها بعد حين، وكلنا شاهد على ما تم من تدمير، دمر بدوره دخل مصر من استثمارات، وأفزع السياح فهربوا من زيارة مصر، بلد الأمن والأمان سابقا!.
وهناك مراهقة تهوى الصراعات والرغبة فى الإحساس بنشوة النصر حتى ولو كان زائفا، وتكون انفعالاته غير سوية وتحركاته غير سديدة، وهم المستفيدون الوحيدون، يبحثون عن المزايا والمصلحة دون وازع ضمير لديهم، ودون رحمة لبلد ينهار ويهوى وتهوى معه أحلام شعب مصر البسيط الكادح.
وهناك مراهقة تدفع صاحبها لليأس والحزن والألم دون سبب، ويبدأ فى التحرر من سلطة الفوقية المتمثلة فى والديه، ليشعر بالاستقلالية حتى ولو على حساب مصلحته، فهو يرى من منظاره المحدود الرمادى اللون أن تبعيته لمن فوقه لا تليق به، ويسلك مسلكا مضادا لكل النصائح التى تسدى إليه ويسلك مسلكه الخاص ولو كان خطأ، فيرفض أن يرأسه بشر ويرفض أن ينصاع لأمر، فهو مع الرافضين والسلام.
بينما هو فى ذات الوقت لا ينصرف بالكلية عن والديه لإحساسه بالأمن والطمأنينة بجوارهما لأنهما أيضا مصدر الدعم المادى له. فيقع فريسة التناقض والتعارض بين الحاجة للاستقلال من جهة والتبعية من جهة أخرى، فيصبح طريدا ومطاردا للمجتمع ليحدث لديه خلخلة لتوازنه النفسى وعدم القدرة على اتخاذ القرار السليم، فتطيش تصرفاته تباعا، وهذا ما نراه واضحا فى الطاقة الشبابية المهدرة الآن فى التظاهر والاقتتال ومعادات بعضهم البعض، فمنهم من يموت بخرطوش، ومنهم من يموت حياً بضياع مستقبله واقتصاد بلده وتدميرها.
إذا كانت المراهقة فترة محدودة من العمر فإن المراهقة السياسية تطول بدوام بقاء هؤلاء المراهقين فى الصفوف الأولى لينشأ عنهم جيل جديد من المراهقين الذين يحترفون السياسة ويبحثون عن المزايا لهم ولأحزابهم بعيدا عن مصلحة الوطن.. وهلم جرا إلى ما لا نهاية!.
لقد فطنت بالتأكيد، عزيزى القارى، إلى هؤلاء المراهقين من حولنا، لتعرف مدى الإعاقة التى لا يبدو معها أن مشاكلنا فى طريقها للحل، والذى يستعصى معها ظهور بنية لأى مشروع فكرى أو سياسى أو تنموى، يتخطى المعوقات التى يصنعها مراهقونا الكبار قبل الصغار منهم، وفى كل الأحوال الكل خاسر ومهزوم، فالمراهقون الصبية يتشاجرون ويتسابون صباحا، وفى المساء يلتقون فى نزهاتهم ويتصافحون، أما مراهقونا السياسيون فلن يتقابلوا ويتصافحوا إلا بعد خراب مالطة، أقصد خراب مصر المحروسة سابقا ولملمة شظايا مصر فوق الخريطة، عندئذ تبرز جوازات سفر المراهقين الكبار من الأدراج ويهجرون مصر حيث تنتظرهم عقاراتهم وأرصدتهم خارجها ليعيشوا فى "تبات ونبات" وتعلق على باب مصرالمهزومة المطحونة المغلوبة على أمرها المفتتة لافتة: "خلصت الحدوتة"!.
تمرد
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة