فى مثل هذا الشهر منذ 46 عاماً مضت، وفى الصباح الباكر من يوم 5 يونيه، مرقت فى الأجواء طائرات عدة كاسرة حاجز الصوت فوق الرؤوس. كنا ننبطح على بطوننا ونحن نجرى أمامها خشية أن ترتطم برؤوسنا الصغيرة. نرمقها بأعين زاهلة حتى تغيب، بعدها تصك آذاننا أصوات الانفجارات المتتالية.
وبعد أن تفرغ حمولتها وفى طريق عودتها كانت تلاعبنا بالاقتراب من الأرض فوق الرؤوس. كنا لا ندرى ماذا يحدث على وجه اليقين؟. إلا أننا كنا نشعر أن هناك كارثة تقع على أرض مصر. تحلقنا حول التلفاز فى انتظار الكلمة، البوصلة التى سيلقيها الزعيم على الأمة، لا.. لقد ظهر الزعيم بوجه غير الوجه الذى اعتدناه، قسمات وجهه منكسرة يعلوها الشحوب والاصفرار، لقد شعرت بذلك على طفولتى، ورغم أن التلفاز كان يبث الكلمة أبيض وأسود. فقد الوجه استدارته وتهدلت الأكتاف العريضة، والريق يمر عبر الحلق بصعوبة، وتتحرك الشفاه ببطء كأنها مثقلة بكلمات تحمل حزن السنين، لا أدرى أين ذهب بريق العينين يا زعيم.
لم يعبأ أحد بأصوات الانفجارات ودوى القصف وعويل الطائرات التى تعوى أصواتها فى أجواز السماء. الكل توحد مع التلفاز لعله يجد ما يشفى الغليل أو يبل الريق الجاف فى الحلوق.
كان الجلوس يستعجلون الكلام لمعرفة ردة فعلنا على الفعل العدوانى الغاشم. ولكن الزعيم والقائد قد أدرك وهو يتحدث أنه لم يعد الزعيم والقائد. لقد ترجل عن جواده وأغمد سيفه، وجاء إلى شعبه ليعترف له بالحقيقة، ويقر أمامه بالمسئولية. اسمع إلى الزعيم وهو يقول بصوت هادئ حزين: "نصل الآن إلى نقطة هامة فى هذه المكاشفة بسؤال أنفسنا: هل معنى ذلك أننا لا نتحمل مسئولية فى تبعات هذه النكسة؟ وأقول لكم بصدق.. وبرغم أية عوامل قد أكون بنيت عليها موقفى فى الأزمة.. فإننى على استعداد لتحمل المسئولية كلها، ولقد اتخذت قراراً أريدكم جميعاً أن تساعدونى عليه.. لقد قررت أن أتنحى تماماً ونهائياً عن أى منصب رسمى وأى دور سياسى، وأن أعود إلى صفوف الجماهير، أؤدى واجبى معها كأى مواطن آخر".
هكذا يتحدث الزعماء والقادة. ولقد علمت نجلى هذه الكلمات التى ما زالت نبراتها ترن فى أذنى بعد كل هذه السنوات الطوال، وهذا التاريخ الذى أحمله فوق ظهرى. هذه الكلمات نزلت على مسامع الملايين فى الوطن العربى كله نزول الصاعقة.
فخرجت الجماهير إلى الشوارع زاحفة تهدر صرخاتها فى جنبات الكون طالبة من الزعيم ألا يتنحى عازفة أشجى سيمفونية عشق لزعيم مهزوم ما زالت قواته تضرب على شط القناة، وهائمة على وجهها فى صحارى سيناء. عمت المظاهرات مصر، وتخطت مصر إلى الدول العربية والأفريقية وأمريكا اللاتيية. هذا الزعيم الجريح ما زالت مصر فى حاجة إليه. لم يأت بعده من يملأ الفراغ الذى تركه فى الزمان والمكان.
قيل إنه لم يمت فى سبتمبر 1970 وإنما مات فى يونيه 1967م. قائد صنعته أمة فصنعها. عاش من أجلها فعاشت تذكره. الزعيم المهزوم الذى أحبه شعبه، وتشبث به بعد هزيمته تشبث الابن بالأب الجريح، وتشبث الأب بالابن العاق. زعيم مات، وحطم وهو ميت الرقم القياسى فى عدد المشيعين، ولا يزال يحتفظ بهذا الرقم رغم مرور ما يقارب النصف قرن. مات عبد الناصر وهو يعيد بناء الجيش ويعد العدة لمعركة العبور. رحم الله الزعيم والقائد الذى ما زالت صورته التى ترفع فى الميادين تؤرق من ظنوا فى غفلة من الزمن أنهم قد احتلوا مكانه، ونسوا أن الكراسى لا تصنع زعماء ولا قادة، وإنما الزعماء والقادة هم من يصنعون الكراسى.
الزعيم جمال عبد الناصر
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
صابر ابونصير
العرفان بالحقيقة
عدد الردود 0
بواسطة:
msh
الزعيم الكاذب
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد علام
الى صاحب التعليق رقم 2
عدد الردود 0
بواسطة:
mmm
لا لأصنام الجاهليه !!!!!!!!!!!!
!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
عدد الردود 0
بواسطة:
americanpharos
الى أنصار "جمال عبدالناصر"
عدد الردود 0
بواسطة:
محمود شرشر
حقيقة
عدد الردود 0
بواسطة:
انا اخوان
مااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااء
عدد الردود 0
بواسطة:
msh
الى صاحب التعليق رقم (3)
عدد الردود 0
بواسطة:
خالد
فين؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
عدد الردود 0
بواسطة:
سلامه عبد الفتاح
الزعيم..................