بينما كان الرئيس الأسبق أنور السادات يضع توقيعه على معاهد السلام مع إسرائيل - 26 مارس 1979 - فى الحديقة الخلفية للبيت الأبيض الأمريكى، كان التاريخ يسجل للمرة الأولى ذلك المشهد الفريد من نوعه لطرف منتصر فى مواجهة عسكرية، يستجيب مُذعنا لشروط طرف مهزوم، وفى الشروط تجريد سيناء من السلاح، وتحجيم الوجود الأمنى المصرى فيها، مقابل إطلاق اليد الأمنية الإسرائيلية بعيون محطات إنذار مبكر أمريكية موجودة فى سيناء منذ توقيع اتفاقية فض الاشتباك الأول فى سبتمبر 1975، ثم تضمن المعاهدة «حق» الإسرائيليين فى دخول سيناء دون تأشيرة دخول، وكأنهم خرجوا منها محتلين ليعودوا إليها ضيوفا.
وعندما تتسع عدسة كاميرا التاريخ، وتعود إلى الوراء قليلا، سوف نلمح فى المشهد جماعة الإخوان المسلمين، وقد منحها السادات قبلة الحياة، منذ سبع سنوات سابقة على توقيع معاهدة السلام، كبرت خلالها ونمت وأصبح لها «أبناء» كثر، بعضهم بالانشقاق التنظيمى، وبعضهم بدواعى توزيع الأدوار، وبعضهم بالإيحاء الفكرى، أو الاستلهام الفقهى، وكذلك كانت مصر - عشية التوقيع على معاهدة السلام - قد امتلأت عن آخرها بجماعات إسلامية مختلفة الأسماء، متنوعة الاتجاهات متفرقة الهوى، لكنها موحدة الهدف. ثم إننا نلمح فى المشهد أيضاً اللواء حسنى مبارك وقد أصبح نائبا لرئيس الجمهورية، وكلاهما - الإخوان ومبارك - سيكون له - بتداعيات ما جرى فى مارس 1979 - الدور الأبرز والأهم فيما هو آتٍ من وقائع، وقد أصبح صاحب «المشهد الفريد من نوعه فى التاريخ» هو الراعى الرسمى والأب الروحى لكليهما معا، وكأنهما «أشقاء بالتبنى» أو لعلهما «الأصدقاء الألداء».
وكذلك بدأ الرئيس مبارك عهده بالرئاسة مسكونا بهاجس مصير سلفه، وفيه شبح جماعات كانت فى لحظة ما قادرة على اختراق الجيش، واغتيال الرئيس، مهموما بكيفية البقاء على قيد الحياة رئيسا، وقد كان شاهدا على اغتيال رئيسه، ساعيا وراء قبول أمريكى ورضا إسرائيلى، مدركا أن «%99 من الأوراق» يجرى إعدادها وترتيبها هناك فى واشنطن وتل أبيب، وقبل ذلك وبعده عارفا إمكانياته المتواضعة وقدراته المحدودة فى إدارة دولة بحجم مصر.
والحاصل أن مبارك، وبمساعدة وزير داخليته حبيب العادلى، واللواء أحمد رائف نائب رئيس جهاز أمن الدولة، نجح فى «تدجين» معظم الجماعات الإسلامية، عبر صفقة - غير مباشرة ربما - تقضى بابتعادهم تماما عن السياسة والكف عن التطلع إلى السلطة والتوقف عن ممارسة العنف، مقابل فتح الأبواب أمامهم على مصراعيها للعمل الدعوى والخيرى، دون أن يدرك أن هذا هو عين «العمل السياسى» فى معناه البسيط وجوهره العميق. وكذلك راح الإسلاميون ينتشرون بنشاطهم الدعوى والخيرى فى أرجاء البلاد، وفيها شبه جزيرة سيناء، التى لم ير فيها مبارك سوى شرم الشيخ، وقد حظيت منه باهتمام مبالغ فيه، تاركا سيناء كلها ساحة يعبث بها الإسلاميون، برعاية أجهزة المخابرات الإسرائيلية المختلفة، وتحت عيون «محطات الإنذار المبكر الأمريكية» وفى فراغ عسكرى -أمنى مصرى كامل، بحيث أصبح من الصعب أن نجزم الآن، ما إذا كان مبارك قد ترك سيناء للإسلاميين والإسرائيليين، أم أن هؤلاء هم من ترك له شرم الشيخ.
وفى الدور الدعوى والنشاط الخيرى، تدفق على البلاد «الإسلام الوهابى» المتطرف، مصحوبا بأموال كثيرة تفوح منها رائحة النفط، وكان الهدف تفتيت المجتمع طائفيا ومذهبيا، وقد نجحوا فى ذلك إلى حد بعيد.
بعد سنوات قليلة، كانت أمريكا تستدعى «الجهاد الإسلامى» لنصرة مسلمى أفغانستان فى مواجهة «الاحتلال الشيوعى السوفيتى»، وكان لافتا أن يتدفق ما يقرب من ثلاثة آلاف «مجاهد» مصرى إلى أفغانستان، لكن مبارك لم يتوقف لحظة أمام هذا العدد المذهل، ولم يسأل أحدا، ولا حتى نفسه، كيف ومتى استطاع الإسلاميون تجنيد كل هؤلاء؟ وإذا كان لديهم «جيش» هذا قوامه، فكم يبلغ عدد أنصارهم ومؤيديهم؟ بل العكس تماما هو ما حدث، حيث تولت أجهزة الدولة «المخابرات العسكرية والعامة»، عمليات التنظيم والإشراف على سفر «المجاهدين»، وبعد إنجاز المهمة، عاد «المجاهدون» ليواصلوا جهادهم، وفيه تفجير فى مدينة دهب يوم 24 إبريل 2006، وقبله تفجير فى المعقل السيناوى للرئيس «شرم الشيخ» فى 23 يوليو 2005، وبعدهما تفجير خان الخليلى فى 22 فبراير 2009. كانت سيناء قاعدتهم، وكانت إسرائيل مطمئنة، وكان الرئيس غائبا أو مغيبا يحلم بتوريث السلطة لنجله الأصغر، بينما السلطة تنساب من بين يديه، ومصر كلها تتعرض للاختطاف.
وعلى الجانب الآخر، كانت إسرائيل تمارس نشاطا جاسوسيا مكثفا، ينطلق من سيناء ليغطى أرجاء البلاد، بينما مبارك يتساهل أو يساعد، ولعل الذاكرة تستدعى - الآن - وقائع وتداعيات القبض على الجاسوس الإسرائيلى عزام عزام، وكانت الصحافة الإسرائيلية هى من نشر الخبر، وأثارت حوله ضجة إعلامية، وعندما سأل صحفى إسرائيلى الرئيس مبارك، فى مؤتمر صحفى بالقاهرة عام 1997، «متى تعتزمون الإفراج عن عزام» كان رد الرئيس أننا أفرجنا من قبل عن 31 جاسوسا إسرائيليا بهدوء ودون ضجة، أنتم فى إسرائيل من كشف موضوع عزام وجعل منه أزمة، وهو الآن يحاكم أمام القضاء.
كانت كل المؤشرات تقول بنشاط إسرائيلى مكثف ودور إسلامى واسع، يتخذ من سيناء قاعدة له، وكان لافتا أن إسرائيل التى يمكن أن تقيم الدنيا ولا تقعدها إذا ما تحرك جندى مصرى فى سيناء «بما يخالف ترتيبات الأمن» المتفق عليها فى معاهدة السلام، لا تبدى أى قلق من أسلحة تتدفق على سيناء «بما لا يخالف شرع الله».
والحاصل أنه على مدى ثلاثين عاما، أو أكثر، كان الإسرائيليون يعملون فى سيناء بدأب، وكان الإسلاميون يستعدون للحظة قادمة، وبلدان ما وراء البحر الأحمر تدعم بلا حساب، أو بحساب مفتوح لا يعرف حدا أقصى.
ولئن كان الكثير من الوقائع والأحداث لم يزل محاصرا ومحصورا فى دوائر من السرية والكتمان، بحكم طبيعة العمل المخابراتى، فربما كان كافيا - إلى حين - ما كشفه عاموس ياديلين الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية «العمل فى مصر تطور حسب الخطط المرسومة منذ عام 1979» وليس مصادفة على الإطلاق أن هذا هو عام توقيع معاهدة السلام، أما طبيعة العمل وأهدافه حسب ياديلين «أحدثنا الاختراقات السياسية والأمنية والاقتصادية والعسكرية فى أكثر من موقع، ونجحنا فى تصعيد التوتر والاحتقان الطائفى والاجتماعى، لتوليد بيئة متصارعة متوترة دائماً، ومنقسمة إلى أكثر من شطر فى سبيل تعميق حالة الإهتراء داخل البنية والمجتمع والدولة المصرية، لكى يعجز أى نظام يأتى بعد حسنى مبارك عن معالجة الانقسام والتخلف والوهن المتفشى فى مصر». وقد جاءت أقوال ياديلين فى حفل تسليم مهام منصبه إلى خلفه الجنرال آفيف كوفخى فى نوفمبر 2010، عشية ثورة يناير.
وبعد 11 فبراير 2011، وفى أجواء فوضى أشرف عليها، أو لعله ساهم فى صنعها، وزير دفاع مبارك، وقد أصبح حاكما للبلاد، تدفقت على سيناء أسلحة بلا حساب، ورفرفت أعلام تنظيم القاعدة فى غير مكان على أرض الفيروز، تحت سمع وبصر مخابرات إسرائيل، بينما لم يكن بوسع القوات المسلحة تحريك مدرعة أو نقل جندى، دون إذن إسرائيلى مسبق.
وعندما دخل الدكتور محمد مرسى إلى القصر الرئاسى فى 1 يوليو 2012، كان من بين أول ما اتخذه من قرارات، الإفراج عن «الإسلاميين» المعتقلين أو المحبوسين بتهم الإرهاب والتفجير وأعمال العنف، لتكتمل الدائرة، ويستعيد المتأسلمون بعض قواهم.
ثم كان أن كشفت تداعيات الأحداث، بعض ما كان مجهولا أو مُجهلا، وفيه أن وزارة الأوقاف لا تعرف عدد المساجد الموجودة فى سيناء، وأن كل قرية فيها تحتوى على مساجد كثيرة جدا عبارة عن عشش، وأن عددا لا حصر له من هذه المساجد يقع فى قبضة الجماعات الجهادية والتكفيرية، هكذا قال سلامة عبدالقوى المتحدث الرسمى باسم وزارة الأوقاف المصرية.
وكذلك ليس غريبا ولا هو خارج السياق ما تشهده سيناء من جرائم متكررة، وأن يكون بعض الإسلاميين وسطاء عند بعضهم الآخر، فقد استحالت أرض الفيروز أرضا للإرهاب، وأصبح مفتاح مصر شوكة فى خاصرة مصر.
عدد الردود 0
بواسطة:
مواطن مصرى حر
افقيوا