منذ أيام أقلع قطار الوقت ليقتطع جزءاً من الزمان دون عودة مبتدءاً من محطة الغرس الأولى، وهى شهر رجب ليمر بمرحلة السقى وهى شهر شعبان لينتهى عند محطة عيد الفطر بعد استكمال الشهر الكريم شهر الصوم، والبركات والخيرات والنفحات ليحمل أعمال عام استقبله المسلمون فمنهم من اغتنمه ومنهم من ضيعه، ولذا أرى أن من واجبنا المسارعة إلى فعل الخيرات وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، فسأتحاور اليوم بين يدى حضراتكم فى عناصر ثلاثة أولها: تعريف التقوى ومالها من فوائد وثانيها: ففروا إلى الله، وأخيراً: اغتنموا الأوقات فقطار الحياة سائر..
وأسأل الله تعالى الصدق والإخلاص والقبول
أولاً تعريف التقوى وفوائدها:
إن تقوى الله تعالى عامل مهمٌّ لتزكية النفس وتهذيبها، ويترتب عليها آثار مهمّة فى الدنيا والآخرة، يقول تعالى: ﴿إِن أَكْرَمَكُمْ عِنَد اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ ، "ﻳﺎ ﺃﻳﻬﺎ اﻟﻨﺎﺱ اﻋﺒﺪﻭا ﺭﺑﻜﻢ اﻟﺬى ﺧﻠﻘﻜﻢ...(( ﻓﻴﻪ ﺗﻼﺯﻡ ﺑﻴﻦ اﻟﻌﺒﺎﺩﺓ ﻭاﻟﺘﻘﻮﻯ.. ﻓﺎﻟﻌبد ﺇﺫا ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ اﺗﻘﺎﻩ ﻭﺇﺫا اﺗﻘى الله تعالى فقد عبده حق العبادة.
فالهدف من عبادة الله تعالى الوصول إلى التقوى، كما أن العبادة يمكن أن تكون تعبيراً عن هذه التقوى، وفى آية أخرى: ﴿وَلَكُمْ فِى الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِى الأَلْبَابِ لَعَلكُمْ تَتقُونَ﴾، حيث بيّنت أن الهدف من القصاص هو التقوى
تعريف التقوى: يمكن تعريف التقوى بأنها: قوّة داخليّة وقدرة نفسية تمتلك من خلالها النفس القدرة على إطاعة الأوامر الإلهيّة، وعلى مقاومة ميولها وأهوائها، ومنشؤها: الخوف من الله، وأثرها: تجنّب معصيته وسخطه، وهى تساعد الإنسان على تجنُّب حبائل الشيطان وإغراء الدنيا.
يقول الإمام على رضى الله عنه : "اعلموا عباد الله أن التقوى دار حصن عزيز، والفجورُ دارُ حصنٍ ذليل، لا يمنع أهله، ولا يُحْرِزُ من لجأ إليه، ألا وبالتقوى تقطع حُمَةُ الخطايا"
أهمية التقوى
أ- تُشرع الأحكام: يستفاد من القرآن الكريم أن لتقوى الله عز وجل قيمة أخلاقية أصيلة، وأنها الهدف لتشريع الأحكام، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الناسُ اعْبُدُواْ رَبكُمُ الذِى خَلَقَكُمْ وَالذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلكُمْ تَتقُونَ﴾.
ب - تورث البصيرة: يستفاد من عدّة آيات وروايات أن تقوى الله تمنح الإنسان بصيرة تمكّنه من معرفة الحقّ لأتباعه، يقول تعالى: ﴿يِا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُواْ إَن تَتقُواْ اللهَ يَجْعَل لكُمْ فُرْقَاناً﴾ إن التقوى تداوى القلب وتهبه البصيرة، فيستطيع عندها أن يشخّص سبيل سعادته، وأن يتجنّب سبل المهالك، يقول رضى الله عنه: "فإن تقوى الله دواء داء قلوبكم وبصر عمى أفئدتكم".
إن أهواء النفس يمكن أن تشوّش على العقل رؤيته، ومن هنا يأتى دور التقوى فى علاج ذلك الخلل، فالتقوى هى من يكبح جماح الشهوات فيستعيد العقل قدرته على الرؤية.
ج – طريق التقوى والحرية إن الإسلام لا يرى فى التقوى تقييداً للحريّة، بل على العكس من ذلك، يرى أنها هى التى تمنح الإنسان حريته من شهواته وغرائزه، يقول : "فإن تقوى الله مفتاح سداد، وذخيرة معاد، وعتق من كلّ ملكة، ونجاة من كلّ هلكة".
جزاء التقوى فى الآخرة:
للتقوى نتائج أخرويّة جليلة جداً منها: الأجر العظيم، قال تعالى: ﴿لِلذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ ومنها: إن من يتقى الله لا يتسرب الحزن إلى قلبه فى الآخرة ولا يخاف عليه، قال تعالى: ﴿فَمَنِ اتقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ومنها: أن التقوى جزاؤها الجنّة وهى دليل الفوز، يقول تعالى: ﴿إِن الْمُتقِينَ فِى جَناتٍ وَنَعِيمٍ﴾.
وعن الإمام زين العابدين رضى الله عنه : "شرف كلّ عمل بالتقوى، وفاز من فاز من المتّقين، قال الله تبارك وتعالى: ﴿إِن لِلْمُتقِينَ مَفَازًا﴾
آثار التقوى فى الدنيا: إن لتقوى الله تعالى نتائج عديدة فى الدنيا، من المفيد أن نشير إلى بعضها:
ومنها: أنها تحفز الإنسان على الأخلاق الحسنة، ولا شكّ أن الأخلاق لها أثرها فى الدنيا كما فى الآخرة. عن الإمام على رضى الله عنه: "التقوى رئيس الأخلاق" ومنها: أن التقوى تبعث الرزق، وتمكّن الإنسان من تجاوز العقبات والأزمات، والتغلب على مشاكلّ الحياة، يقول تعالى: ﴿وَمَن يَتقِ اللهَ يَجْعَل لهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾، ويقول تعالى: ﴿ومن يَتقِ اللهَ يَجْعَل لهُ من أَمرِهِ يُسْراً﴾ وورد عن على رضى الله عن ما يوضّح ذلك: "فمن أخذ بالتقوى عَزَبَتْ عنه الشدائدُ بعد دنوِّها، وَاحلَوْلَت له الأمور بعد مرارتها، وانفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها، وأَسْهَلَتْ له الصعاب بعد إنْصَابِهَا"
ومنها صحة البدن: فقد ثبت وجود علاقة بين نفس الإنسان وبدنه، وأن كلاً منهما يؤثّر بنحو ما على الآخر، ولهذا فإن بعض الأمراض البدنيّة والنفسيّة قد تنشأ من الأخلاق السيّئة، كالحسد، والحقد، والغضب، والطمع، والتكبر، وحبّ الذات، والغرور.. فالتقوى واجتناب الأمور السيّئة لها تأثير مهم وأساسى فى علاج الأمراض الجسدية والنفسيّة، وهى تساعد على تأمين سلامة الإنسان من هذه الأمراض.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "فإن تقوى الله... شفاء مرض أجسادكم وصلاح فساد صدوركم، وطهور دنس أنفسكم.
ثانياً: ففروا إلى الله.... الفرار ليس له إلا صورة واحدة ألا وهى الانطلاق بكل ما أوتى الفار من قوة طلباً للنجاة، فهل جرب كل واحد منا الفرار؟ الفرار أمر حتمى لكل واحد منا لأنه أمر ربانى أمرنا الله به، لكن الفرار إلى أين؟ لقد حدد الله لك الوجهة ورسم لك الطريق فقال سبحانه: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّى لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} نعم إنه الفرار إلى الله، تفر إلى الله لأن خلفك عدوك إبليس يسعى خلفك جاهداً بكل ما أوتى من قوة ليجعلك من أصحاب السعير أخبرك بذلك ربك وحبيبك يوم أن قال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} ومع الأسف هناك من الناس من عكس طريق سيره فسار باتجاه عدوه ففرح به ذلك العدو واحتضنه فيسير الإنسان خلف نفسه وشهواته فيظلم نفسه ظلما بينا ً
ففروا إلى الله
إذا فررت إلى الله وأنت "مريض" فإنك تفر إلى "الشافى"
إذا فررت إلى الله وأنت "ضعيف" فإنك تفر إلى "القوى"
إذا فررت إلى الله وأنت "محتاج" فإنك تفر إلى "الكافى"
إذا فررت إلى الله وأنت "ذليل" فإنك تفر إلى "المعز"
إذا فررت إلى الله وأنت "حيران" فإنك تفر إلى "الهادى"
فالشافى، والكافى، والهادى، والقوى، والمتين، والباقى هذا هو......الله الحنان المنان الكريم.
أيها الفار إلى الله: إن من رحمة الله تعالى بنا وبكم أنه إذا علم من عبده صدق الفرار إليه أعانه ووفقه ولم يتركه وحده واستمعوا معى إلى وعد من لا يخلف الميعاد يوم أن قال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} ويقول جلت عظمته: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} روى البخارى فى صحيحه عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِى اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: "أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بِى وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِى فَإِنْ ذَكَرَنِى فِى نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِى نَفْسِى وَإِنْ ذَكَرَنِى فِى مَلَئ ذَكَرْتُهُ فِى مَلئٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَى بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَى ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِى يَمْشِى أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً" فماذا تنتظروا أيها الأحبة فى الله هذه الطريق ميسرة وهذا ربكم معين لكم ففروا إلى الله إنى لكم منه نذير مبين.
وأخيراً: اغتنموا الأوقات فقطار الحياة سائر إن الوقت فى حياة المسلم أغلى وأثمن، لِما يعلم من قيمته فى دينه ودنياه. وقد اهتم به الإسلام وأولاه عناية كبيرة، حسبكم أن الله تعالى أقسم فى كثير من الآيات بظواهره المختلفة تنبيها إلى عظيم شأنه: ( والشمس وضحاها ـ والليل إذا يغشى ـ والفجر وليال عشر ـ والعصر إن الإنسان لفى خسر ـ والضحى والليل إذا سجى...) بل ربط الإسلام كثيرا من العبادات والقربات بأوقات زمنية مخصوصة، فى الصلاة والزكاة والصوم والحج والنوافل والأذكار وغيرها. والمسلم يعلم أنه لن يدرك الجنة إلا بحسن استثمار فرص العمر بكل أوقاته وأحواله فيما يرضى ربه، لأنه عن كل ذلك سوف يسأل، كذلك يخبرنا النبى صلى الله عليه وسلم: ( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل، عن عمره فيم أفناه وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به
إن المسلم العاقل العامل، يغتنم فرصة، ويتحرك بجد وحزم وعزم لملء أوقات عمره بالطاعات والقربات وفعل الخيرات، ويسارع إلى مغفرة من ربة وجنات النعيم، كما هو مأمور فى كتاب الله وسنة رسوله. وهذا تحضيض من النبى الكريم على المبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل حلول الموانع والمعوقات والفتن:( بادروا بالإعمال سبعا: هل تنتظرون إلا غنى مطغيا، أو فقرا منسيا، أو مرضا مفسدا، أو هرما مفندا، أو موتا مجهزا،أو الدجال، فشر غائب ينتظر، أو الساعة، والساعة أدهى وأمر ) (الترمذى عن أبى هريرة).
إن استغلال الأوقات يتطلب التخطيط والتنظيم ومراعاة أنسب الأعمال لأنسب الأوقات، فليست كل الأعمال صالحة لكل زمان. قال أبو بكر لعمر- رضى عنهما- لما استخلفه: ( واعلم أن لله عملا بالنهار لا يقبله بالليل، وعملا بالليل لا يقبله بالنهار).
استقبلوا الأيام المقبلة بتخطيط وتفكير وهمة وعزيمة وإرادة وقد آثرت اليوم أن أُنهى الحديث بالمسارعة إلى المغفرة وأما الحديث عن الجنة فسأرجئه إلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى وأسأل الله تبارك وتعالى التوفيق والسداد والقبول والإخلاص
والله من وراء القصد وهو الهادى إلى سواء السبيل
* إمام وخطيب مسجد الجمال بالمنصورة
محمود محمد الأبيدى يكتب: "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم"
الإثنين، 27 مايو 2013 01:19 ص
صورة ارشيفية
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
nasr alshennawy
التقوى