فى بداية الفترة الأولى للثورة كانت الدماء تغلى فى العروق من فرط الفساد والاستبداد والقهر الذى طوق الأعناق لعقود.
تلك الثورة المتقدة فى النفوس دفعت الجميع لرفض كل رموز العصر السابق، سواء الرئيس السابق أو وزراء حكومته وكذلك حاشيته وأعضاء البرلمان المنحل آنذاك، كان ذلك الرفض منطقيا ومبررا مع كل الفساد السياسى والاقتصادى الذى عاناه الشعب فى وجود هذا الحزب فى الحكم، ثم اتسعت تلك الحالة الثورية من الرفض لتشمل جميع رموز الحزب الوطنى المنحل لكنها ما لبثت أن اتسعت لتشمل جميع أعضاء ذلك الحزب مهما تضاءلت قيمتهم أو كانت مواقفهم سليمة وذممهم المالية نقية حتى من شاركوا فى ثورة 25 ينايرنفسها كشباب وكمحتجين مثل كل الشباب الثائر، وهو ما وسع دائرة الإقصاء لتخرج عن نطاق العشرات إلى المئات ثم الآلاف ثم عشرات الآلاف من أبناء الوطن الذين لا نجادل فى كونهم مخطئين بانتسابهم لحزب فاسد كان يتخذ منهم قاعدة عريضة لشعبيته.
لكن التعميم أضر أكثر مما أفاد فقد كان الحزب الوطنى يفرض عضويته على الكثير من الفئات مقابل ممارسة دورهم وتحصيل حقهم الطبيعى فى الوجود والترقى وتولى الوظائف الهامة التى هم أهلا فى الأساس لها ليكون هؤلاء واجهة جيدة للحزب الحاكم. بالطبع لا يمكننا وصف أعضاء هذا الحزب بالملائكية وأنهم مخدوعون لا أصحاب مصالح يحققونها من وراء انتسابهم للحزب لكننا كذلك لا نستطيع أن نضفى عليهم جملة واحدة صفات الشياطين التى يجب علينا رجمها، بل أن احتضان الفئات الأضعف فى تلك المعادلة وخاصة الشباب وجذبهم لربيع الإصلاح وطمأنتهم أنهم جزء من نسيج الوطن لا يمكن إقصاؤه أو التخلى عنه كان من الممكن أن يوفر الكثير من العداوات والانقسامات الاجتماعية والطاقات المهدرة لأشخاص الاستفادة من خبراتهم تجنبنا شر ومكائد وتجعل إمكاناتهم وكفاءاتهم طوعا للثورة طمعا فى الأمان وتعويضا لما فاتهم بسقوط النظام السابق لكن للأسف بذل الثوار العكس فى إهانتهم وقهر حريتهم ومنعوهم من التعبير وسفهوا آراءهم.
حتى تعاطفهم مع الرئيس السابق كان من الممكن احتواؤه كبعد إنسانى ومشاع وحرية شخصية لا دليلا على الخيانة التى توجب الإقصاء والمنع من المشاركة فى كل ما يخص ويهم الوطن، ومعهم الكثيرون الذين شاركوهم التعاطف معه كرجل كبير السن أو كقائد عسكرى له تاريخ مشرف فأصبحوا جميعا مدانين مهانين لا يبالى الجميع بالسخرية منهم والاستهزاء بهم ولم يضع أحدا لهم وزنا فى أى قرار سياسى أو مطالبة ثورية كما لو أنهم ليسوا شركاء فى الوطن.
بمرور الأسابيع والشهور تحول الإقصاء من كل من انتسب للحزب الوطنى فى أى وقت إلى كل من شغل منصبا أو تولى مسئولية فى عهد مبارك وإن لم ينتم للحزب الحاكم وتحولت دائرة الإقصاء إلى لغة الانتقاص والمهانة والتهميش بل والعزل سياسيا واجتماعيا مما رفع هؤلاء الذين تم إقصاؤهم وتهميشهم إلى كراهية الثورة والثوار والتكتل سويا والانعزال عن الثورة وتحولت فرص التقارب والاحتضان إلى فرص ضائعة وتحول هؤلاء لمعسكر معاد ومضاد للثورة.
كان الأمر الأسوأ على الإطلاق عندما أخذت دائرة التخوين والتشكيك فى الاتساع لتشمل كل من يقول رأيا يخالف الميل الثورى أثناء وبعد الثورة سواء داخل الميدان أو خارجه برغم أن الاتجاهات الثورية متغيرة وانفعالية يحكمها المزاج الثورى والرأى الجمعى لجموع الثوار، مجرد ذكر أى معلومات عن حرق واقتحام السجون والأقسام وهروب المساجين أو الحديث عن وجود تمويلات خارجية أو حتى التساؤل كان كافيا بنزع الوطنية والاتهام بالانتماء للنظام السابق لأى شخص يتجرأ بمثل هذا الحديث ولو كان واحدا ممن شهدوا الثورة من اليوم الأول.
ومن كان يرفض حصار المؤسسات أو يتحدث عن تفريغ الثورة من مضمونها بكثرة الوقفات الاحتجاجية والمليونيات كان حتما يتهم بأنه عميل للمجلس العسكرى، وكذلك عندما بدأ المزاج الثورى يميل لحصار المؤسسات والتعامل بعنف وافتعال المواجهة مع الجيش والشرطة كان هناك دوما من يبررون ويحفزون الشباب على المشاركة ويصورون المشاركون بأنهم أحرار وأن الرافضون عبيد اعتادوا أن يساقوا ولا أمل فيهم ومن يعترضون خائنون للثورة.
كان من يقبل أى فكرة تعن لأى ثائر يحرك جموع الثوار فى اتجاه هو فقط الحر وكل من يرفض الكيل بالمكيالين ويرى أن الثورة السلمية لا تقبل سوى الوسائل السلمية ولا تقبل بين صفوف الثوار كل من يلجأ للعنف أو تحميه أو تدافع عنه هو عبد جبان اعتاد أن تطؤه الأقدام. أما الحديث عن خطورة موقف مصر الاقتصادى وضرورة حمايته لكيلا نصل للحد الحرج ومرحلة الخطر كان يفسر بأنه مجرد فزاعات لإيقاف المد الثورى والحديث عن خطورة الوضع الأمنى وضرورة التكاتف لمنع تعزيز قوات التكفيريين على الحدود كان حديث يثير الضحك والسخرية لأنه مجرد أكاذيب تروج لبث الخوف فى النفوس دون وجود أى مؤامرات حقيقية.
كان الوضع المتأجج سببا فى طمس الكثير من الحقائق وقلب المواقف وميل الكفة لاتجاهات استخدمت كافة الوسائل واخترقت المجموعات الشبابية واستفادت من غضب الشارع الثورى فى تأجيج الصراعات واستمرار الانفلات الأمنى واستمرار تدفق الأسلحة من البؤر الملتهبة من حولنا لتصب فى صالح الجماعات الإرهابية ولتجعل استعادة هيبة الدولة وتأمين المواطن هدفا يبدو مستحيلا ومطلبا مكلفا فى الأرواح والممتلكات.
لقد وقع الثوار فى أخطاء جسيمة كالتعميم فى الاتهامات بالانتماء للنظام السابق والتخوين لكل من يخالف آراء الثوار والاستسهال فى توجيه أى تهم للنظام السابق بدلا من تحرى الدقة والبحث فى كل حادثة أو مشكلة على حدا وهو ما جعل دوما هناك طرفا مستترا يلعب الجميع لصالحه بقصد وبغير قصد لأنهم يسهلون مهماته بغض الطرف عنه وتوجيه كل اتهام للنظام السابق.
وكذلك التعصب لوجهة نظرهم دون مرونة فى الوصول للغايات بالحوار والتفاوض بل والتعالى بالثورية على كل طوائف الشعب وتوزيع صكوك الوطنية والثورية والانتماء فقط على المؤيدين والمسايرين لأفكارهم وهو ما أوصلهم للإحباط نتيجة الإخفاق فى الوصول للأهداف المنشودة.
والانزلاق للعنف نتيجة التخبط فى الرؤى التى تناقض بعضها بعضا والتشرذم لعشرات من الائتلافات والحركات التى يريد كل منها أن تكون لها الريادة وأشخاص يريد كل منهم أن يكون الزعيم والقائد الملهم، وهو ما أضعف قوتهم وشتت جهدهم وأضعف مكانتهم فى قلوب الناس ووسع الهوة بين رؤى كل مجموعة ثورية والأخرى إلى حد العداء وتخوين بعضهم البعض لاحقا وكل تلك العوامل مجتمعة سهلت اختطاف الثورة من بين أيديهم لصالح قوى منظمة متوحدة فى الهدف وإن كانت مختلفة الرؤى تتحرك فى الشارع. لقد وقع الثوار فى الكثير من الأخطاء الكفيلة بوأد أى الثورة وضياعها وإضاعة حقوق من ضحوا لأجلها وإن كانت نواياهم طيبة وأهدافهم نبيلة ومقصدهم الخير لمصر. وللحديث بقية إن شاء الله.
غادة عطا تكتب: الثورة ما بين حلم التغيير وظلال المؤامرة( 9 )
الأحد، 26 مايو 2013 05:32 م
صورة ارشيفية
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
طارق
الحقيقة
عدد الردود 0
بواسطة:
مصرية
وجهة نظر