إذا وضعنا فى اعتباراتنا، (عند الحديث فى موضوع طبى متوجهين به إلى غالبية الشعب، من خلال ميكروفون الإذاعة، أو شاشة التلفيزيون)، الحقيقة المرة التى تؤكد ارتفاع نسبة الأمية الهجائية، التى نتوجه إليها بالخطاب، ثم أضفنا إليها الحقيقة الأخرى الأكثر مرارة وهى انعدام الثقافة الطبية، أو وجودها مغلوطةً لدى النسبة الباقية من المتعلمين غير الاختصاصيين، استطعنا أن ندرك أهمية المطالبة بعدم إذاعة الاعلان الذى يحث على شراء الدواء بالشريط وبكف بعض أطباء (البرامج !!)، عن مناقشة المسائل العلمية شديدة التخصص والتى لا يجب أن تخرج عن جدران الأروقة العلمية ومكاتب البحث الطبى، إلى حيث يلوكها غير المختصين ليل نهار، وتؤثر فى سير العملية الطبية، وخطط العلاج التى يضعها الأطباء ( المناضلون !!) العاملون فى الريف والمناطق الشعبية للسيطرة على أمراض المترددين عليهم ، وما أكثرهم ؟؟
فالكلام بإسهاب مثلاً عن مضاعفات المضادات الحيوية الخطيرة وتأثر الكلى والكبد بها ولو بحسن نية ، يخيف الناس من تناولها عند وصفها لهم بواسطة الطبيب لعلاج مرض لا يتم الشفاء منه الا بها مما يتسبب فى تفاقمه وظهور المضاعفات الخطيرة له، وقد حدث ذلك بالفعل ، وأنا عليه من الشاهدين، إذ شعر رجل بسيط بآلام مبرحة فى إحدى ساقيه وارتفاع فى درجة الحرارة ورعشة، فزار أحد الزملاء المتخصصين فى جراحة العظام، الذى فرح جداً لأن المريض – صدفة أو قصدا - بدأ مشواره بطريقة صحيحة بتوجهه إلى الطبيب المختص، وفى الوقت المناسب وبعد عمل الأشعات والفحوص اللازمة تم تشخيص المرض على أنه التهاب بكتيرى فى عظمة الساق (osteomylitis) وحمد الزميل الله أن المرض لم يزل فى بدايته وبالإمكان السيطرة عليه فقام بوصف العلاج الذى تضمن أحد المضادات الحيوية بتركيز 500 مجم وأحد مضادات الالتهاب بتركيز 600 مجم على أن يتناولها كل 6 ساعات، فما كان من المريض بعد أن جمع التركيزين وهاله أن يتعاطى 1100 مجم اربع مرات فى اليوم إلا أن سأل الصيدلى عن أى الدواءين هو المسكن للألم وأيهما المضاد الحيوى، وقام بصرف المسكن فقط، وإمعانا فى إظهار ثقافته التليفزيونية عمل بما يحث عليه الإعلان إياه فحسبها صح (وإن كان فى الواقع قمة الخطأ) واشترى شريطا واحدا بدلا من العلبة كاملة وبذلك أنهى مشواره بصورة خاطئة !! مما جعل حالته تتحول من حالة تعالج طبيا إلى أخرى لا علاج لها إلا الجراحة، وعندما تمت مناقشته فى دوافعه لعدم تناول المضاد الحيوى وهل هى مادية تتمثل فى التوفير أو قلة ذات اليد، أم على أى أساس آخر قامت ؟؟ ، قال بعفوية: لا شىء من كل هذا، بل لخطورتها على الكلى كما سمعت فى التليفزيون من الدكتور .. ولما قال له زميلى إنه أيضا دكتور، وهو الذى قام بفحصه فتكون معرفته بحالته أتم، ويجب أن يسمع كلامه هو، كان رده المضحك المبكى : ولكن الآخر دكتوووور فضائى من دكاترة الفضائيات !!
فانظروا إلى أى مدى ممكن للإعلام المرئى أن يؤثر فى عقول البسطاء ..
لذلك أرى أنه يجب على الزملاء الأفاضل أطباء البرامج عند التحدث فى مرض من الأمراض عدم الخوض فى المسائل العلمية والفنية البحتة وخطط العلاج ووسائله التى لا تهم المريض بل قد تفهم خطأً فتعود عليه بالضرر، والاكتفاء بالإشارة إلى مسببات الأمراض وعوامل تفاقمها وظهور المضاعفات غير المرغوب فيها وطرق الوقاية منها، مع توجيه النصح والإرشاد للمشاهد باللجوء إلى المختص لتحديد خطة العلاج والالتزام بها من قبيل الحض على سؤال أهل الذكر وإعطاء العيش لخبّازه وما أهل الذكر فى هذه الحالات وخباز العيش إلا الطبيب المعالج وليس طبيب البرامج، ولا بطل الإعلانات.
