إن العروبة لم تبلغ أسمى صورها وأنقى خصائصها، وأصفى ملامحها إلا تحت مظلة الإسلام، فغدا للعروبة ذلك الوجه الحضارى المشرق البناء، الرافض لرذائل الجاهلية، المتمسك بمكارم الأخلاق، فالإسلام هو الذى جعل من العروبة قوة حضارية وسياسية وهو الذى أكسبها الوجه المشرق الخلاق.
وهناك أشخاص كُثر ليسو من خارج العالم الإسلامى فقط، بل ومن داخله من أصحاب المذاهب والأيدلوجيات الكارهة للإسلام أو الرافضة للأديان، حيث تمسكوا بالعروبة وحرصوا على وصف الحضارة (بالعربية) ليس حبا فى العروبة أو تقديرا لدورها، واعتزازا بمكانتها، وإنما رفضا للإسلام ورغبة فى الانتقاص من دوره كقوة حضارية كبرى أسهمت إسهاما منقطع النظير فى بناء صرح الحضارة البشرية.
فالحضارة فى مصطلح هؤلاء عربية، والعلم عربى، والفن عربى، حتى تحية المسلم لأخيه أصبحت فى عرفهم تحية عربية، كل ذلك فى محاولة منهم لطمس دور الإسلام عقيدة وفكرا ومنهجا، وإحلال العروبة محل الإسلام.
ولكن هيهات، فالحقيقة التاريخية أقوى وأرسخ من أن تتأثر بمثل هذه النهشات، ولا نستطيع أن ننكر أننا فى عالمنا الإسلامى اليوم نقف عند مفترق طرق خطير بين آسفين على مجد أدبر، مترحمين على شمس غربت، وأيام انقضت، وبين مشككين فى ماض وحاضر ومستقبل، وبين مفتونين بحضارة الغرب يلتهمون منها ما يصادفونه من غذاء دون تفرقة بين النافع والضار.
أما المترحمون على الحضارة الإسلامية: فيحلو لهم بين الحين والآخر أن يقيموا لها عزاء فى شكل مؤتمر أو ندوة يذكرون فيها محاسن حضارة الآباء والأجداد، ويتغنون بأمجاد الماضى، مرددين فى معظم الحالات كلاما معادا، قد لا يتعدى إنجازات هذه الحضارة فى العلوم والفنون والآداب وغيرها، ومهما يكن فى التغنى بأمجاد الماضى من شحذٍ للهمم واستثارة للعزائم، فإننا نأمل أن يكون ذلك مصحوبا بإلقاء الأضواء على حقيقة كبرى ينبغى ألا تفوتنا: هى أن الحضارة الإسلامية العربية ذبلت ولكنها لم تمت، وإنها كالشجرة الضخمة الممتدة الجذور فى الأعماق، لأن جفت أوراقها لافتقارها إلى الغذاء المناسب، أو لعدم العناية بها، فإنها من الممكن بزوال هذه الأسباب أن تستعيد نضارتها، وتعود أعظم مما كانت عليه لتستظل البشرية جمعاء بظلها فى الحاضر مثلما استظلت بظلها فى الماضى.
ثم إن ذبول شجرة الحضارة الإسلامية اليوم لا يرجع إلى عدم قدرتها على مسايرة التطور العلمى الحديث- مثلما يدعى البعض- وإنما يرجع ذلك فى المقام الأول إلى تقصير أبناء هذه الحضارة وأصحابها، وتخليهم عن روحها ومبادئها، فإن أخلصوا لها، عاد إليها وجهها المشرق.
