رأى المسئولون الأوروبيون المشاركون فى منتدى الدوحة أن ما يشهده العالم العربى من تحولات ديمقراطية يشابه ما مرت به الدول الأوروبية سابقاً، والتى استطاعت تجاوزه بإدماج مسئولى النظام السابق وتأجيل قضايا العدالة الانتقالية إلى مرحلة لاحقة.
جاذ ذلك خلال الجلسة النقاشية الأخيرة من منتدى الدوحة، التى نظمها مركز بروكنجز الدوحة اليوم الأربعاء ضمن فعاليات اليوم الأخير من المنتدى.
وقال برناردينو ليون، المبعوث الخاص للاتحاد الأوروبى لجنوبى المتوسط، وهو اسبانى الأصل، إنّ "إسبانيا لم تضع أى قوانين لمنع السياسيين الذين كانوا سابقاً جزءاً من نظام فرانكو من المشاركة فى الحياة السياسية، كما أن مانويل فراجا، الذى قاد المعارضة الإسبانية لسنوات عديدة كان أحد الوزراء السابقين فى نظام فرانكو".
واستكمل: ولم تعرف إسبانيا الديمقراطية المعاصرة إلا فى العام 1975 عند وفاة الجنرال فرانكو. ودام حكم فرانكو 39 عاماً، وكان دكتاتورياً، حيث فرض الرقابة وسجن المعارضين وأنشأ معسكرات اعتقال وفرض العمل فى السجون وأعدم الكثير من المعارضين. وقد قدّمت إسبانيا بعد وفاة فرانكو قضية المصالحة الوطنية والتعايش على قضية محاسبة المسؤولين والمشاركين فى جرائم التعذيب والانتهاكات، وقد كان هذا الخيار موضوع جدل ونقاشات حادة طيلة العقد الماضى. وتشهد تونس ومصر حالياً قضايا مشابهة ما بعد ثورات 2011.
واقترح ليون على النظام القضائى المصرى أن ينتهج مقاربة أكثر ليناً خلال الفترة الانتقالية – حيث كانت المحكمة الدستورية العليا فرضت العام الماضى حلّ أول برلمان مصرى كان انتخب ديمقراطياً، ممّا ساهم فى مزيد من الفوضى السياسية والاقتصادية، التى شهدتها الدولة بعد وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة وانتخاب مرسى رئيساً.
وأيّد مايكل بوسنر، المساعد السابق لوزير الخارجية الأمريكى لشؤون الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمالة، ما ذكره ليون، مستحضراً التجربة الأرجنتينية حيث تركت شؤون العدالة الانتقالية إلى مرحلة لاحقة ما بعد سقوط الحكم العسكرى أوائل الثمانينيات.
وقال بوسنر: "من الصعب جداً على الأفراد أن يصدروا أحكامهم من الخارج ويقرروا التحكّم فى توقيت أو كيفية سير هذه الخطوات. لقد كنت معنياً فى الحالة الأرجنتينية وكان هناك رغبة بتشكيل لجنة حقائق ولكن ذلك استغرق 25 عاماً".
بدوره، قال نيكولاى مالدينوف، وزير الخارجية البلغارى السابق، أن المصالحة كانت أيضاً عنواناً رئيسياً فى التحولات التى مرّت بها دول أوروبا الشرقية فى بداية التسعينيات، وذلك بعد انهيار الاتحاد السوفياتى والنظام الشيوعي. وبيّن مالدينوف أن صربيا كانت حاولت تطبيق مقاربة جنوب أفريقيا فى إنشاء لجان كشف الحقائق والمصالحة فى مراحل مبكرة من التحول، ولكنها عدلت عن تلك الفكرة عندما رأتها غير حكيمة لذلك الوقت تحديداً.
وقال: "فى حالتنا، وفى حالة بولندا، وعدد من الدول الأخرى، كان هناك مفهوم حوارات الطاولة المستديرة، حيث تطّلع الأطراف المجتمعية المختلفة على وجهات النظر الأخرى ومع الوقت تتفهّمها وتحترمها، بما فيها وجهات نظر رموز النظام السابقين.... للوصول إلى اتفاقية بشأن المرحلة الانتقالية عند بدايتها"، مضيفاً أن الترتيبات والإجراءات الدستورية التى اتّخذت فى ذلك الوقت ثبت أنها كانت مصيرية على المدى البعيد.
وأضاف: "علينا أن نكون حذرين فى اعتماد تشريعات وأحكام قد تثبت فيما بعد أنها عائق أمام مجتمعات المستقبل"، مبيّنا أن هذا ما حصل فى بلغاريا، حيث "كان هناك ضغط قوى باتجاه فصل السلطات قدر الإمكان، ولكن فى السنوات التالية، ثبت أن هذا يجعل عملية التنسيق بين إدارة القضاء والسلطات صعبة، وبات علينا معالجة ذلك بعد سنوات".
أمّا عن الفوارق بين هذه التجارب وما يشهده العالم العربي، فقال مالدينوف: "لعل أبرز الفوارق بين تجربتنا والتجربة الحالية للعالم العربى، أن تركيزنا كان منصباً بشكل كبير على العدالة والمساواة الاجتماعية، وعلى اقتصاد السوق الاجتماعي، كما كنا نسميه فى أوروبا. بل لعل كل ما كان يجرى فى أوروبا فى التسعينيات كان متركّزاً على التحلل من الاقتصاديات التى تديرها الدولة واستبدالها باقتصاديات السوق".
وفى الشأن الاقتصادى، كان ليون نبّه الحكومات العربية إلى أنه لأجل التأقلم السريع مع الوضع والعودة للوقوف على قدميها بأقرب فرصة ممكنة، لا بدّ من اعتماد الشفافية فى السياسات المالية: "هناك ضرورة لاعتماد الشفافية فى الموازنات الجديدة لاقناع الفاعلين فى الاقتصاد الدولى والمستثمرين بأن الأمور تتغيّر حقاً، ولهذا يجب أن تكون الموازنات الجديدة تتمتّع بالشفافية، والأمر نفسه ينطبق على الضرائب والامتيازات".
من جهته، رأى السفير المصرى السابق لدى الولايات المتحدة الأمريكية، نبيل فهمى، أن مصر وقعت فعلاً فى خطأ الذهاب إلى سياسيات المنافسة الحزبية قبل وضع الدستور، حيث تمّ استباق وضع الدستور بانتخابات برلمانية ورئاسية ضغط باتجاهها الرئيس مرسى ولإسلاميون الذين سيطروا على اللجنة الدستورية التى تشكلت، وذلك ما بعد الانتخابات البرلمانية التى فاز فيها إسلاميون أيضاً، بحسب فهمى.
وقال فهمى: "ما نريد منكم أن تفعلوه فى حالات الانتقال هو ليس الانقسام، ولكن التوحّد. يجب الاجتماع والعمل سوياً، فى وضع وتحديد دستور يشمل كافة مشارب الحياة ومختلف وجهات النظر، ومن ثمّ تعمل الأحزاب السياسية ضمن هذه الأبعاد.
أمّا عندما نخوض أولاً فى العملية السياسية ثم نحاول وضع دستور، فسينتهى الأمر بتفرقة القوى السياسية وتشتيتها.. وسيتسبب ذلك بجعل المرحلة الانتقالية تطول أكثر بكثير".
وأضاف: "هناك استقطاب فى مصر أكثر مما يجب أن يكون هناك بعد عامين من الثورة، إننى متفائل على المدى البعيد لكنى لا أستطيع أن أخفى أننى منزعج نوعاً ما على المدى القريب".
وفى تونس، يجرى العمل حالياً على اعتماد الدستور، بعد أن قامت لجنة الصياغة بوضع نسخة مسودة نهائية، يتمّ طرحها حالياً للنقاش العام، أى بعد عام على الانتخابات التى تشكّل على إثرها المجلس التأسيسى وحكومة يقودها أيضاً إسلاميون.
وقال رفيق عبد السلام، وزير الخارجية السابق فى هذه الحكومة، وعضو حزب النهضة الإسلامى من تونس، أن مسودّة الدستور تجنّبت عمداً وضع نقاط من مثل "تحديد دور للشريعة الإسلامية" وذلك لهدف الحصول على إجماع سياسي. وكما فى مصر، لم تسلم تونس من التوترات السياسية والاجتماعية بين الإسلاميين ومعارضيهم وهم مجموع من الليبراليين واليساريين وقوى الاتحادات العمالية.
وأوضح عبد السلام: "فى الدستور، أعطينا أولوية للاجماع السياسى. إننا نأمل أنه سيكون ديمقراطياً ويستوعب كافة متطلبات الإسلام والحداثة"، مشيراً إلى المادة 59 التى تعرّف تونس بأنها دولة مسلمة لغتها العربية. وأضاف: "لم نشأ أن نغرق الدولة فى مزيد من النقاشات الإيديولوجية، فقررنا خوض المرحلة الانتقالية بأقل المخاطر الممكنة".
ودافع عبد السلام عن محاولات عزل أعضاء ورموز النظام السابق، حيث كان تمّ حظر الحزب الحاكم للرئيس السابق زين العابدين بن على فى تونس، وكذلك الحزب الحاكم للرئيس المخلوع حسنى مبارك، فى مصر.
وبرّر عبد السلام ذلك بالقول: "تحاول بعض الأحزاب اليوم أن تعيدنا إلى الوراء، إلى الماضى. لقد نجحت فترة ما بعد فرانكو فى دمج القوى الحاكمة سابقاً، ولكن منطقتنا تشهد فجوة عميقة ما بين الأنظمة السياسية السابقة والجديدة، وهذا أمر طبيعى جداً فى حالة ما بعد الثورة. إننا ما نزال ندفع ثمناً كبيراً لممارسات النظام السابق".
فى حين لم يرّ فهمى مبرراً لعزل أو نبذ كافة أعضاء ورموز النظام السابق، حث إن العديد منهم لم يكونوا يشاركون هذه الأنظمة إيديولوجياتها.
وقال فهمي: "لم تكن هذه أحزاباً إيديولوجية، بل كانت أحزاب مصلحة ذاتية" فى إشارة إلى الحزب الدستورى الجديد (بن على) والحزب الوطنى الديمقراطى (مبارك)؛ مضيفاً: "أسس السادات الحزب الوطنى الديمقراطي، ومنذ أعلن عن تأسيسه حتى الساعة الثانية عشر ظهراً، كان جميع الأعضاء فى الحزب السابق قد انضموا إلى الحزب الجديد باستثناء أربعة فقط. إذا قررت حلّ كلّ ما يتعلّق االماضى والتخلّص منه، فهذا يعنى أنك تقرّر حلّ الدولة والتخلّص من كل ما كان فى جوهرها.
لأنّ هذه الأحزاب لم تكن أحزاباً إيديولوجية، يجب أن تحاسب (فقط) من تورّطوا فى الفساد وسوء استخدام السلطة".
وفى إجابة عن سؤال حول دور الدول الخليجية فى دعم مصر وتونس كدول ما بعد الثورات، إلى جانب الاحزاب الإسلامية الحاكمة، أجاب معظم المتحدّثين أنه على دول الخليج أن تعى بأن التغيير السياسى لا يمكن استبعاد وصوله إليهم على المدى البعيد.
وأشار فهمى: "التغيير سوف يحصل فى كافة أنحاء العالم العربى، ومهما يكن، فى العلاقة بين الحكومة والمحكومين. من يدرك ذلك سوف يتعامل مع الأمر بطريقة بنّاءة ويحقّق نجاحاً أكبر مقارنة بمن لا يدركه".
وقال بوسنر أن تعامل دول الخليج مع الحركة الاحتجاجية التى اندلعت فى البحرين –والتى تمّ سحقها بمجرد اندلاعها فى 2011 بعد سقوط مبارك وبن علي- شكّل تضييعاً لفرصة رئيسية كان يمكن فيها ضمان أن يتمّ التغيير فى المنطقة بطريقة سلسة وغير خطرة.
وقال: "لم يكن تعامل دول مجلس التعاون الخليجى مرضياً من حيث عدم جدّيتهم تجاه ما التزمت به حكومة البحرين ما بعد أحداث دوّار اللؤلؤة من إصلاحات.. ولم تقم سوى ببعضٍ منها، ولكن ليس الإصلاحات الأهمّ.
ومن الملفت للنظر أن المعارضة لم تكن تطالب بتغيير النظام بل بجزء من السلطة وبمجتمع أكثر انفتاحاً وديمقراطية"، ونبّه بوسنر: "على دول الخليج أن تنظر إلى ما يحصل على أنّه طريقة سلسة من التغيير من دون انقلابات. وهناك حاجة شديدة فى هذه المنطقة إلى قيادات معاصرة، قبل أن يفوت الوقت على ذلك".
بالمقابل، اعتبر عبد السلام، وهو عضو فى حزب النهضة الذى تربطه علاقات جيدة مع قطر، أن الدول الخليجية من مثل قطر تساعد على دعم التغيير فى العالم العربي، فى حين تتملك بعض الدول الأخرى بعض المخاوف. وما تزال المملكة العربية السعودية تؤوى بن على الذى التجأ إليها فى الرابع عشر من كانون الثاني/ يناير 2011 بعد شهر من الاحتجاجات وأعمال الشغب التى حاولت الشرطة عبثاً أن تقمعها فى مختلف أنحاء البلاد.
"البعض فى دول الخليج يرغب بدعم الديمقراطيات الجديدة، مثل قطر، وهى على الطريق الصحيح. الآخرون قد يكونون خائفون من التغيير الجديد. لقد شهدنا عدداً من الكتّاب فى الخليج يتحدّثون عن تحوّل الربيع العربى إلى خريف أو شتاء. هم لم يعطوننا حتى فرصة لأن نسعى لانجاح هذا الربيع"، أضاف عبد السلام. وأوجز: "الموقف الخليجى ليس متجانساً، البعض يخشى من التغيير ولديه رؤية مظلمة بخصوص ما يجرى فى تونس ومصر".
يذكر أن هذه الجلسة ضمن منتدى الدوحة، والتى نظمها مركز بروكنجز الدوحة، كانت الجلسة النقاشية الأخيرة فى اليوم الثالث من المنتدى، وتبعتها مباشرة الجلسة الختامية. وقد ناقش المنتدى على مدى أيامه الثلاثة القضايا الراهنة فى الشؤون الدولية والعربية.
فى آخر أيام "منتدى الدوحة".. سفير مصر السابق بأمريكا: مصر تدفع ثمن اختيار المسار الخاطئ فى التحوّل.. ووزير الخارجية التونسى السابق: ما تزال رموز النظام السابق تحاول أن تفشل الانتقال الديمقراطى
الأربعاء، 22 مايو 2013 06:53 م
السفير المصرى السابق نبيل فهمى لدى الولايات المتحدة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة