لقد اقتصر الإعلام فى سالف العصر وقديم الزمان على الحوار وإلقاء الشعر فى الأسواق والخِطابة فى دور العبادة والمناقشة بقصد التوجي، أى أنه كان منظماً بشكل مباشر بين المرسل والمرسل إليه، ونجَمَ عن هذا الأسلوب نهضة فكرية وثقافية كما عند العرب قبل الإسلام وعند اليونانيين أيام سقراط، كما إن أنبياء الله ورسله عمدوا إلى نشر الأفكار والمعتقدات والشرائع بالاعتماد على تلك الوسيلة المباشرة.
إن التضليل الإعلامى وتمويه الحقائق ظواهر قديمة جداً، انتشرت عبر وسائل الاتصالات واللقاءات البشرية، ومن خلال الهجرات والحروب والغزوات وأثناء نشر الأخبار والمعتقدات، فالتاريخ الإسلامى حافل بالكثير من الضلال والتضليل الإعلامى، فقد تعرض الرسول، صلى الله عليه وسلم، لأكبر حملة تشويه إعلامى قد يتعرض لها بشر فى حادث الإفك.
إن الدعاية الإعلامية الزائفة تعمل بحرص ودأب على إشاعة عقلية تصدق وتستسلم كما تحرص على هدم روح النقد ونشر روح الانقياد، وبذلك تنفصل الرسالة الإعلامية عن القيمة الأخلاقية، فالإعلام الزائف يضع مكان الوجود الواقعى وجوداً مظهرياً من نسيج تصوراته وإرادته، وهو لا يعانى من نقص فى معرفة الحقيقة، بل ينقصه الصدق فى عرض الواقع كما هو بل يعرضه كما تفرضه مصالحه، ويتضخم ويتوسع هذا التزييف الواقعى كلما اتسعت المسافة بين الرغبة والقيمة بين الواقع والخيال بين الحق والضلال بين الرأى العام والرؤية الشخصية، وبذلك يلقى بضميره فى غياهب النسيان ويتملص من المعيار الأخلاقى المرتبط به بتقديم صورة إعلامية زائفة، وقليلاً ما نجد فى وسائل الإعلام من يستهدف إيجاد أفضل الطرق لزيادة الوعى وتقويم الأفكار المضللة.
لقد كان الإعلام المصرى قبل الثورة إعلام سلطة، يقوم على أساس سياسة إعلامية مرسومة مسبقاً، تنبنى على طمس المعلومات وإبعادها عن متناول فكر المواطن بما يخدم السلطة الرسمية وأغراض النظام ومصالحه، لتشكيل العقول وصبها فى قوالب جامدة، بشكل يتنافى ومقومات التفكير السليم، فكان الخطاب يمثل حوارا بين القاهر والمقهور بهدف التضليل تحت شعارات جميلة، منها مثلا الغايات النبيلة، الوعود الإصلاحية، الخطط الإنمائية، الرقى والتقدم، وهكذا يصبح الكذب جزءاً لا يتجزأ من المنظومة، ونسيج يرسم العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
وبعد ثورة يناير المجيدة كان المأمول تحرر الاعلام بجناحيه الرسمى والخاص ولكن تبدل الحال بمحاولات لسيطرة السلطة على الإعلام الرسمى ليساند توجهات النظام وأداءه السياسى، أما الإعلام الخاص تحرر من سلطة وقبضة وقهر الحاكم الأوحد إلى سلطة وسيطرة أشد وطأة وأسوأ أثرا، هى سلطة وسطوة رأس المال، فراح يمارس سياسة إعلامية أسوأ ضلالا وإضلالا من ذى قبل إلا من رحم ربى.
إن كثيرا من منابر الإعلام الحالى تفتقر إلى صدق المعلومة وجديتها وبعضها تحول إلى نزعة عنصرية تجاه الآخر المختلف معه مستغلا مناخ الخوف والاضطراب السياسى والانفلات الأمنى والتقهقر الاقتصادى، وبذلك تحول المجتمع إلى هيكل إعلامى قوامه الأخبار الساخنة ليدق بها على أوتار الهيجان العاطفى للشعب الذى عانى من القهر المادى والنفسى لعقود طويلة وتربى على تصديق الكذب مقارباً به الواقع.
ويبرز سبب آخر بجانب سطوة رأسمال المصالح لا يقل أهمية إلا وهو امتلاء الساحة الإعلامية بمن ليسوا أهلا لها من الكتاب والصحفيين والنشطاء السياسيين والدعاة والمصلحين والمشاهير من الفنانين والرياضيين، ممن لا يعرفون قواعد العمل الإعلامى المهنية والأخلاقية فى غيبة لميثاق الشرف الإعلامى، والذى ينبنى على (أن الحرية أساس المسئولية) والإعلام الحر هو فقط الجدير بتحمل مسئولية الكلمة وعبء توجيه الرأى العام على أسس حقيقية، إذ أن حق المواطن فى معرفة الحقيقة هو جوهر العمل الإعلامى وغايته،
لقد حلت ظاهرة الصحفى الإعلامى (وشتان ما بين هذا وذاك) بعدما اختفت ظاهرة الوزير البرلمانى، حيث إن كلاهما الخصم والحكم فى أن واحد وأصبحت برامج "التوك شو" التى يقدمها العديد من المشتغلين بالصحافة وغيرها، من السمات المميزة لكل قناة، وأصبحت فى حد ذاتها مشكلة فهى تخاطب جماهير ضخمة، وكثير من مقدمى هذه البرامج تصوروا أنفسهم نجوما يصنعون الرأى العام ويوجهونه إلى ما يخدم آراءهم وتوجهاتهم الشخصية والسياسية ومنهم من أصاب وأخفق منهم الكثير، وتؤدى بعض هذه البرامج إلى تعميق هوة الخلاف بين أبناء الوطن، وإثارة الرأى العام على قضية ما أو حادث لا يرقى لمرتبة الظاهرة دون النظر إلى عواقب ذلك، وإنما يكون الشغل الشاغل فقط هو كم الإعلانات، وما تدره على القناة من أموال طائلة إذ أن هدف القنوات الفضائية فى المقام الأول هو الربح المادى على اختلاف توجهاتها، وكذلك مدى النجومية التى ستضاف إلى المذيع الفاضل والتى يكتسبها من وراء الشعارات التى يرفعها أو القضايا التى يناقشها.
أخيرا نقول إن الحقيقة من حيث المبدأ يجب أن تعلو على أى اعتبار وإن المجتمعات الحضارية لا تخاف الحقيقة المبنية على المعلومة الصادقة، بل ترتكز عليها فى أشد وأصعب اللحظات التى تمر بها لتبنى عليها الدافعية للنمو والتقدم.
ماسبيرو
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
kh
طبعاً أى حد يشكر فى هذا المقال يبقى إخوانى
طبعاً أى حد يشكر فى هذا المقال يبقى إخوانى