تتخذ رواية "يا مريم" للأديب والأكاديمى العراقى "سنان أنطون" الانقسامات الطائفية فى بلاد الرافدين موضوعا لإبداعها، وتحديدا معاناة المسيحيين التى وصلت ذروتها بتفجير كنيسة "سيدة النجاة" فى وسط بغداد عام 2010.
وفى مستهل روايته – التى وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر" لعام 2013 - يمهد "أنطون" إلى هذا الحدث الجلل، بصوتين يقص كل منهما ما يشبه المذكرات.
وبين سرد كل منهما لتلك التفاصيل اليومية فى مواجهة رعب الطائفية ينسج تفاصيل مشهدية يبدو فيها التتابع السينمائى واضحا، وهو أثر تركته خبرة الإخراج السينمائى للكاتب الذى قدم فيلما تسجيليا عن بغداد عام 2004، ثم يتبع القصة بصوت السارد الروائى لينهى روايته منتصرا لرؤية من اثنتين تتصارعان داخل النص.
الرواية الصادرة عن دار "منشورات الجمل" اللبنانية فى157 صفحة من القطع الصغير، تقدم رؤيتين متناقضتين لشخصيتين من عائلة عراقية مسيحية، تجمعهما ظروف البلاد تحت سقف واحد فى العاصمة بغداد.
الشخصية الأولى هى: يوسف الذى يعيش خريف العمر فى هدوء ويرفض أن يهاجر ويترك البيت الذى بناه وعاش فيه نحو نصف قرن، فيظل متشبثا بخيوط الأمل، وبذكريات ماض سعيد ما زال حيا فى ذاكرته.
أما الشخصية الثانية فهى: مها وهى شابة عصف العنف الطائفى بحياتها وشرد عائلتها وفرقها عنهم؛ لتعيش نازحة فى بلدها، ونزيلة فى بيت يوسف تنتظر مع زوجها موعد الهجرة عن وطن لا تشعر أنه يريدها.
وتثير الرواية أسئلة جريئة وصعبة عن وضع الأقليات فى العراق؛ إذ تبحث إحدى شخصياتها (يوسف)عن عراق كان، بينما تحاول الشخصية الأخرى (مها) الهرب من عراق الآن.
وتدور أحداث الرواية فى يوم واحد تتقاطع فيه سرديات الذاكرة الفردية والجمعية مع الواقع، ويصطدم فيه الأمل بما كتبه القدر؛ حيث يغير حدث واحد حياة الشخصيتين إلى الأبد.
وينتصر الروائى العراقى عبر حدث تفجير كنيسة "سيدة النجاة " - الذى نفذه مسلحون من جنسيات عربية مختلفة - لصالح رؤية مها التى تؤكد استحالة التعايش بين الطوائف فى العراق، بينما يذهب "يوسف" - الذى يحمل بداخله الأمل فى التعايش - ضحية الانفجار، ويمثل موته هزيمة لرؤيته القائلة بإمكانية التعايش.
ورغم ذلك فان التفاصيل التى يرصدها "سنان أنطون" لعملية التهجير للأسرة فى النص، والتى تتذكرها " مها" تشير إلى احتقانات بين أبناء الطائفة الواحدة نتيجة مزاحمة المهجرين من مناطق الصراع الطائفى إلى أقاربهم فى أماكن أكثر هدوءا داخل الوطن الواحد.
بينما تشير ابنة الأسرة المهجرة فى موضع آخر إلى ذلك الأمل فى التعايش من خلال تعاطف الجار المسلم مع جاره المسيحي؛ حيث تقول: "سافر أبى فى بادئ الأمر ليستطلع الأوضاع واستأجر شقة صغيرة هناك ثم عاد ليأخذنا معه.. سلم مفاتيح البيت والدكان لجارنا أبو محمد، الذى كان يثق به وطلب منه أن يحاول بيع ما يمكن بيعه من أثاث البيت وأن يجد شاريا أو مستأجرا. قال لنا إن أبا محمد اعتذر منه وهما يتعانقان وكاد يذرف دمعة".
تحفل الرواية بثراء على مستوى الرموز يتجلى فى النخيل العراقى الذى كان مجال عمل البطل يوسف.
وكما انتهى الأمر بالبطل إلى وحدة وشيخوخة ثم قتيل فى عملية تفجير الكنيسة، فإن النخيل العراقى الشهير يعانى من الإهمال بعد أن كان محل اهتمام ورعاية الجميع، وهى إشارة إلى ما لقيه العراق ورمزه النخيل من مصير.
وفى التفاصيل تبدو مها البطلة الوحيدة للرواية بعد إجهاضها نتيجة الهجوم على الكنيسة، وقد قررت الانعزال عن العالم تماما والغرق فى ترانيم حزن العذراء على وليدها.
ويصل بها الأمر لدرجة استخدام سدادات الأذن، وهى إشارة فى الرواية إلى العزلة التى فرضتها الأقلية المسيحية على نفسها والانكفاء على الذات، فضلا عن الهجوم اللفظى لمن لا ترتدى الحجاب فى الشارع أو حتى من مجرد ورود اسم جورج فى أوراقها والتنبيه عليها بصفاقة أن تختار أسماء عربية بعد ذلك.
ثمة ميزان دقيق استخدمه الكاتب "سنان أنطون" يرصد به عبر النص الروائى آليات عمل العنف الطائفى ومظاهره وجذوره السياسية والاجتماعية؛ فبينما تدور أحداث الرواية فى يوم واحد هو يوم تفجير كنيسة "سيدة النجاة"؛ فإنه يعود بالذاكرة فى سرد بديع لسنوات تمتد حتى ما قبل نهاية العصر الملكى والانقلاب عليه.
ويشير فى طيات العودة إلى أن السلطة لم تتوقف يوما عن القتل، وإذا كان الضحايا فى العهد الملكى آشوريون، فقد تطور الأمر بعد الاحتلال الأمريكى للعراق عام 2003؛ إذ أصبح المسيحيون وغيرهم فى مرمى نيران الإرهاب.
وولد "سنان أنطون" - كاتب رواية "يا مريم" - لأب عراقى وأم أمريكية، وهاجر إلى الولايات المتحدة بعد حرب الخليج الثانية عام 1991 مباشرة.
ويعمل حاليا أستاذا للأدب العربى فى جامعة نيويورك، وصدر له من قبل أكثر من عمل أدبى، سواء شعر أو رواية، حيث قدم سابقا روايتين، هما: "أعجام"، و"وحدها شجرة الرمان"، وديوان شعر هو: " ليل واحد فى كل المدن".
والجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر" هى جائزة سنوية تختص بمجال النثر الروائى فى اللغة العربية، وتُدار بدعم من مؤسسة جائزة البوكر فى لندن، وتتم رعايتها من قبل هيئة أبوظبى للسياحة والثقافة فى الإمارات.
ويحصل كل مؤلف بلغت روايته القائمة القصيرة على عشرة آلاف دولار، أما الرواية الفائزة فيحصل كاتبها على 50 ألف دولار أخرى، إضافة إلى ترجمة الرواية إلى الإنجليزية.
وقد فاز بالجائزة هذا العام الروائى الكويتى سعود السنعوسى عن روايته "ساق البامبو".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة