اعتادت وكالات التصنيف الائتمانى أن تصدر تقاريرها عن أداء اقتصاديات الدول والشركات الكبرى والأدوات المالية المختلفة، إلا أن هذه التقارير أصبحت محل نظر منذ الأزمة المالية العالمية، التى انهارت فيها مؤسسات وبنوك بل واقتصاديات دول، كانت تصدر بشأنها تقارير من تلك الوكالات تؤكد على جدارتها الائتمانية وقوة مراكزها المالية.
ويوم الخميس الماضى خفضت وكالة "استاندارد أند بورز" التصنيف الائتمانى لمصر، ليصل إلى (+CCC) بدلًا من (-B) وذلك فيما يخص الاقتراض طويل الأجل، كما تم تخفيض التصنيف للقروض قصيرة الأجل من (B) إلى (C).
وأرجع التقرير أسباب خفض التصنيف الخاص بمصر إلى عوامل اقتصادية تتعلق بتزايد الضغوط على احتياطى النقد الأجنبى، وكذلك وجود مخاوف بشأن سلامة الاستدامة المالية للموازنة العامة للدولة، والقدرة على السلم الاجتماعى، وعرج التقرير على تعثر مفاوضات صندوق النقد الدولى، وتأخر مصر فى الحصول على قرض من الصندوق يقدر بنحو 4.8 مليارات دولار، وأشار التقرير أيضًا إلى الأسباب السياسية المتمثلة فى حالة عدم الاستقرار.
والملفت للنظر أن خفض "استاندارد أند بورز" للتصنيف الائتمانى لمصر يأتى بعد أيام قليلة من إعلان البنك المركزى المصرى عن زيادة احتياطيات البلاد من النقد الاجنبى بنحو مليار دولار نهاية شهر أبريل الماضى ليصل إلى 14.4 مليار دولار ،وكذا وجود استقرار نسبى فى الشارع السياسى المصرى، إضافة إلى تلقى مصر مساعدات مالية من ليبيا وقطر تقدر بنحو 5 مليارات دولار، وهو ما يثير سؤالا مهما حول مغزى توقيت صدور هذا التصنيف ودقة المعطيات التى استند عليها.
ويأتى التصنيف الائتمانى من وكالة "استاندارد أند بورز" لمصر خلال الأيام القليلة الماضية كذلك فى ظل تحسن ملموس لمؤشرات الاقتصاد المصرى والأخبار المتوالية عن تحسن أداء ميزان المدفوعات والصادرات والسياحة، مما يؤدى إلى تحسن المؤشرات الكلية، بخاصة تلك المتعلقة بالموارد الدولارية.
وعلى الرغم من أهمية هذه التقارير الصادرة عن وكالات التصنيف الائتمانى، إلا أن تاريخها يدعونا لإعادة النظر فى مدى الأخذ بنتائجها فى الاعتبار، فقبل ثورة 25 يناير كانت هذه الوكالات تصدر تقاريرها بشكل إيجابى عن أداء الاقتصاد المصرى، بينما كان واقع هذا الاقتصاد يقول إنه يعانى على عدة مستويات، مثل تزايد عجز الموازنة، وزيادة الدين العام المحلى، وعدم كفاءة تخفيض الإنفاق العام، وتزايد معدلات الفقر والبطالة، والاعتماد على المصادر الريعية، وتراجع مساهمة القطاعات الإنتاجية فى الناتج المحلى الإجمالى، وغيرها من المشكلات الهيكلية، مما جعل تقارير هذه الوكالات محل شك، أو أنها تأخذ بمجموعة من المؤشرات غير معبرة بشكل دقيق عن أداء اقتصاديات الدول أو الشركات.
وعالميا تكرر هذا السيناريو، فقبل وقوع الأزمة المالية العالمية فى أغسطس 2008 كانت وكالات التصنيف العالمية تمنح البنوك والمؤسسات المالية الأمريكية درجة ممتاز+AAA، وثبت بعد وقوع الأزمة أن المؤسسات الأمريكية لم تكن تستحق هذا التصنيف حيث كانت تعانى مراكزها المالية من مشاكل حادة وحالات تعثر أدت فى النهاية لانهيارها.
ومن شأن تصنيف "استاندارد أند بورز" الأخير لمصر أن يرفع من تكلفة القروض التى تحاول الدولة الحصول عليها من السوق الدولية، وإن كان التصنيف يصف الحالة فى مصر على أنها مستقرة، ولم تصل مصر بعد إلى مرحلة عدم الوفاء بالتزاماتها تجاه الدائنين، بل لعل السبب الرئيس الذى أدى إلى خفض قيمة احتياطى النقد الأجنبى المصرى إلى نحو 13.4 مليار دولار بنهاية مارس الماضى، هو قيام مصر بسداد التزاماتها الدولية من أقساط وفوائد الدين الخارجى والمقدرة بنحو 1.5 مليار ونصف المليار دولار سنويا منها 700 مليون دولار تم سدادها فى يناير 2013.
لا توجد وكالة واحدة لإصدار التصنيفات الائتمانية على مستوى العالم، ولكن توجد عدة وكالات، أبرزها الثلاثة الكبار (استاندارد أند بورز، موديز، فيتش)، التى تتخذ من أمريكا مقرًا لها. واللافت للنظر تعدد التصنيفات للاقتصاد الواحد أو للمؤسسة الواحدة، من قبل هذه الوكالات، فكل واحدة منها لها مكون مختلف لتصنيفها، وبالتالى توجد مساحة كبيرة للتقديرات، ومدى اعتماد هذه التصنيفات.
وعدم وجود مؤشرات موحدة ومعتمدة فى التقييم يخلق مساحة واسعة لمن يقوم بعمليات التقييم، وقد تخضع فى ظل هذه الأجواء عمليات التقييم للرؤية الشخصية، والأمر يتعلق باقتصاديات دول وبقرارات استثمار، لا تحتمل أن تكون تحت وطأة التقدير الشخصى.
ومن الصعوبة بمكان أن تعمل هذه الوكالات تحت مظلة واحدة، ولكن من المقبول أن تتوحد معايير التقييم، حتى يكون التصنيف الصادر معبرًا عن واقع حقيقى.
ولذلك يطالب البعض بوجود قوانين منظمة لعمل وكالات التصنيف الائتمانى، بخاصة فى ظل تضارب المصالح، حيث تحصل هذه الوكالات على رسوم نظير إصدارها هذه التقارير. وهو الأمر المثير للجدل، فكيف تحصل تلك الوكالات على رسوم ونضمن حيادها؟.
وبالتالى من الأفضل أن تخضع هذه الوكالات لضوابط قانونية تضمن عدم تعارض المصالح مع أدائها، بجمعها بين إصدار التصنيفات والحصول على رسوم.
لعل أبرز الأخطاء التى وقعت فيها تلك الوكالات، أنها لم تشر من قريب أو بعيد عن وقوع الأزمة المالية العالمية التى أطاحت بالاقتصاد الأمريكى فى أغسطس 2008، وعلى الرغم من أن كل تصنيفاتها تكون متعلقة بالمستقبل، إلا أنها لم تتنبأ بتلك الأزمة، ومن يومها وتصنيفات هذه الوكالات محل شك، حيث كانت تصنيفاتها للعديد من المؤسسات المالية واقتصاديات دولية تفيد بجدارتها الائتمانية، وقدرتها على الوفاء بالتزاماتها، ولكن واقع الأزمة، أظهر نتائج عكس ذلك، ولولا تدخل البنوك المركزية والحكومات الغربية وأمريكا، لكان الاختفاء من السوق هو مصير تلك المؤسسات الكبرى.
ومن الطبيعى أن يكون لدينا تاريخ لتصنيفات تلك الوكالات عن الجدارة الائتمانية للاقتصاديات الأوروبية المنهارة حاليًا، فقد كانت تلك الوكالات تصدر تصنيفها للسندات المضمونة بالرهن العقارى بجدارة ائتمانية عالية، حتى فى ظل حالة الركود التى انتابت سوق العقارات بأمريكا فى عام 2006.
لقد رُفعت العديد من القضايا من قبل حكومات ومستثمرين على وكالات التصنيف الائتماني، لما ترتب على تقاريرها الخاصة بتقييم الديون، أو الأدوات المالية المختلفة بأكبر من قيمتها، أو بأكبر مما تستحق من جدارة ائتمانية، من خسائر، ولعل الأبرز فى هذه القضايا ما كان من الولايات المتحدة الأمريكية ضد وكالة استاندارد أند بورز، حيث دخلت الوكالة فى مفاوضات ودية مع وزارة العدل الأمريكية لتسوية القضية نظير دفع مبالغ كبيرة، وتكررت نفس الحالة مع استراليا.
وإذا كانت أمريكا واسترليا وبعض المستثمرين ذوى الملاءات المالية أصحاب القدرة على تحمل التكاليف المالية الكبيرة الخاصة بالتقاضى، فما هو حال الدول النامية والمدينة التى تتسبب تقارير هذه الوكالات فى تحقيق خسائر وأضرار بالغة لها.
ليس من قبيل الصدفة أن يكون مقر وكالات التصنيف الثلاث الكبرى فى الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى الرغم من التراجعات المتتالية فى مؤشرات الاقتصاد الأمريكى منذ بداية الألفية الثالثة، إلا أن التصنيف الائتمانى الصادر عن هذه الوكالات للاقتصاد الأمريكى، لا يقل بحال من الأحوال عن (+AAA)، واستثناء على هذه القاعدة أصدرت وكالة استاندارد أند بورز تصنيف يفيد بتراجع التصنيف الائتمانى لأمريكا، إلا أن هذا التصنيف لم يستمر طويلًا، حيث تراجعت الوكالة عن هذا التصنيف وأبقت وضع الاقتصاد الأمريكى فى أفضل مراتب التصنيف كما كانت من قبل.
ويعد موقف وكالات التصنيف الائتمانى من توصيف الاقتصاد الأمريكى مثيرا للتساؤلات، فهناك اعتبارات اقتصادية لم يأخذها التصنيف فى الاعتبار.. ألم يتجاوز الدين العام لأمريكا ناتجها الإجمالى؟، ألم يحدث أكبر خلاف سياسى داخل أمريكا حول وضع الدين والعجز بالموازنة، مما جعل أوباما يخفض من قيمة موازنة العام 2013 بنحو 80 مليار دولار؟.
ولو كانت هذه النتائج السلبية قد تحققت فى واحدة من الدول الأخرى، لما تأخرت وكالات التصنيف عن إصدار تقاريرها الداعية إلى تخفيض التصنيف الائتمانى. ولكنها الأسئلة التى تبحث عن إجابة لكشف حالة اللبس والغموض حول دور هذه الوكالات، وتضارب موقفها من دولة إلى أخرى.
وفى حالة مصر يصبح السؤال مشروعا، هل التصنيف السلبى للاقتصاد جاء كعقاب لمصر على توجهاتها الجديدة فى سياستها الخارجية، ومحاولتها الخروج من العباءة الأمريكية، والتوجه شرقًا وجنوبًا لتستفيد من العلاقات الاقتصادية مع دول مجموعة البريكس الخمسة التى تضم الصين وروسيا والبرازيل وجنوب أفريقيا والهند؟، علما بأن صدور تقرير استاندارد أند بورز جاء فى الوقت الذى كان يزور فيه الرئيس المصرى محمد مرسى البرزايل.
أم إن الأمر يتعلق بممارسة ضغوط على مصر من أجل إنهاء مفاوضات الحصول على قرض الصندوق فى أقرب وقت ممكن، وعدم التفكير فى تدبير مصادر لسد الفجوة التمويلية بعيدًا عن مؤسسات التمويل الدولية التابعة للتوجهات الأمريكية؟.
الحيادية.. مأزق يلاحق وكالات التصنيف الائتمانى "تحليل"
الأحد، 12 مايو 2013 11:03 م
صورة أرشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة