أنتجت جامعات الولايات المتحدة الأمريكية فى عام واحد أكثر من عشرة آلاف بحث علمى، تم الاستشهاد بها بشكل متكرر فى مؤلفات علمية أخرى، فى مقابل أربعة أبحاث أنتجتها كل جامعات الدول العربية مجتمعة، حسب دراسة قياسية لمقارنة الإنتاج العلمى بين الجامعات.
تتغير مفردات العصر وعلومه بسرعة.. وصار عجزنا عن المشاركة فى صناعة هذه المفردات خبرا قديما لا يستحق الاهتمام.. طال خروجنا من دائرة الفعل، وأصبح ذلك التخلف هو علتنا التى يعلمها الجميع.. أما دراسة علوم الطب أو الهندسة باللغة الإنجليزية فلم تتجاوز كونها عرضا من أعراض هذه العلة.
وفى محاولة ساذجة لتجاهل المرض وعلاج أعراضه قرر واضعو دستورنا الجديد توجيه صفعة جديدة للتعليم.. حيث تنص المادة 12 من دستور مصر الجديدة على أن "تحمى الدولة المقومات الثقافية والحضارية واللغوية للمجتمع وتعمل على تعريب التعليم والعلوم والمعارف".. يبدو القلق على هويتنا واضحا فى ذلك النص، قلق مبرر على هوية متأزمة يخشى الجميع تفتتها أمام غزو ثقافى ولغوى عالمى لا ينتهى.
الدواء لم يكن تطوير التعليم لنصبح قادرين على صياغة واقعنا، أو العمل على زيادة قدرتنا على التواصل مع ثقافة عالمية أصبحت تقنية وعلمية إلى حد كبير، وإنما يكمن الدواء- من وجهة نظر أول دستور لمصر الحديثة بعد الثورة- فى تعريب العلوم!.. صار علاج التخلف العلمى فى دستورنا الجديد هو فرض الانغلاق اللغوى على علماء المستقبل وتعريب التعليم، وياللعجب!.
"تعريب التعليم والعلوم والمعارف".. كعادة أغلبنا تقرأ الجملة سريعا بسرعة قادرة على تجاوز تلك السببية الزائفة بين حماية الهوية وتعريب العلوم، وتجاوز ذلك الخلط بين تعريب العلوم وتعريب التعليم.
مرت الأغلبية مرور الكرام على المادة 12 من الدستور، وما بها من خلل واضح، وانقسمت حولها بين مؤيد ومعارض لتعريب التعليم.. وتناسى المؤيدون أن دراسة العلوم باللغة الإنجليزية، لم يكن أبدا من منطلق الخنفسة أو التفرنج بل هو محض نفعية بحتة للإطلاع على علوم توقفنا عن المشاركة فى صياغتها منذ قرون مضت.
نسى المؤيدون لللتعريب- أو تناسوا- واقعنا العلمى المخزى وظلوا يضربون على الأوتار العاطفية المعتادة: لغتنا الجميلة وتراثنا المجيد ومواريثنا الثقافية، إلى آخره من حجج لا تنم عن موضوعية فى مواجهة أزمات عدة.
لم يطلعنا المؤيدون لتعريب العلوم على ما يعرفونه عن دور الجامعة الذى لا ينتهى عند طالب يجاهد مع لغة أجنبية، بل يتعدى ذلك لينتج باحثا علميا أو أستاذا جامعيا قادر على التواصل مع مصادر العلم عبر مؤتمرات علمية دولية ومئات المجلات الدورية المتخصصة التى تصدر بالإنجليزية، وليس عبر لجان حكومية بائسة تقر تعريب مرجع أو اثنين فى مختلف التخصصات.
لم يحدثنا مؤيدو تعريب العلوم عن ميزانيات جامعاتنا الهزيلة، وما إذا كانت تلك الميزانيات ستزداد هزالا بعد تحمل نفقات ترجمة تلال من المراجع وأمواج متتالية من المجلات العلمية.. ذلك إن كنا حقا نسعى للحاق بركب العلم، كما يدعون!.
خلال الفترة الزمنية ذاتها التى أجريت فيها الدراسة القياسية لمقارنة الإنتاج العلمى، السابق ذكرها، كانت جامعة دمشق، إحدى الجامعات التى تبنت مشروع التعريب، تراسل مختلف أقسام جامعة القاهرة تسألها عن أسماء "أمهات الكتب" فى مختلف التخصصات العلمية لترجمتها إلى العربية وتدريسها، وهنا تكمن النكتة، حيث يدرك أى باحث علمى أن الاعتماد على ترجمة مراجع هى فى الأصل تستند إلى أبحاث تم نشرها قبلها بسنوات، من شأنه تأخير وصول الكثير من المتغيرات العلمية إلى متلقيها، ولسنوات عديدة.
يبقى سؤالان: الأول عن حرية الجامعات فى إقرار لغة تدريس المواد المختلفة ضمن ما تراه ملائما للنهوض بالحركة العلمية، وما إذا كان هذا الحق قد تم اغتياله على يد فقهاء اللجنة التأسيسية لصياغة الدستور؟، والثانى عن الفعل المبهم "تعمل" فى المادة الدستورية، إلى أى مدى سوف تذهب الدولة فى عملها لتعرب التعليم؟ أملى أن يكون عملها فى هذه الناحية مثمرا كإثمار عملها على محاربة الفقر وضمان حرية الفكر!.
مدرس بكلية طب قصر العينى بجامعة القاهرة.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
وليد
رد علي المقال..لست اخوانيا و أتمني وضع جميع قيادات الاخونجية في السجون، و لكن:
عدد الردود 0
بواسطة:
د/ عمرو هاشم ربيع
متوجعش قلبك
عدد الردود 0
بواسطة:
عابر سبيل
رقم1 وليد
عدد الردود 0
بواسطة:
قرصان الكاريبى
كلام تمام