يمكنك تحمل ساعات واقفا فى طابور عيش أو منتظرا وسيلة مواصلات غير أدامية، ولكن ما قدرتك على تحمل شعور العجز وقلة الحيلة وأنت ترى والدتك أو ابنك تتهاوى حياتهم أمام عينيك ولا تملك ثمن علاجهم؟
نقص الدواء، ارتفاع أسعاره. مشاكل يعانى منها المريض المصرى تضاف إلى معاناته فى الحصول على الحد الأدنى من حقوقه كانسان، أو أقل.
وفى البحث عن أسباب الأزمة تباينت الآراء وكان علينا أن نبحث فى جذورها والتى بدأت منذ أكثر من ثلاثين عاما مضى وهو ما يرصده الدكتور جلال غراب الرئيس السابق للشركة القابضة للأدوية قائلا: "بدأت أزمة الدواء فى مصر تتشكل منذ منتصف الثمانينات وتضخمت مع الوقت، وساعد على ذلك غياب الرقابة وانتشار الفساد وعدم وضع خطط إستراتيجية للمنظومة من قبل الدولة، مما أدى إلى دخول الشركات الخاصة وفرض سيطرتها على السوق وفى المقابل اضمحل حجم القطاع العام، فقبل تلك الفترة كان عدد الشركات لا يتجاوز 15 شركة ليصبح اليوم 150 شركة، تنتج حوالى عشرة آلاف صنف من الأدوية فى حين أن احتياج السوق الفعلى لا يتجاوز ثلاثة آلاف. وهنا بدأت أكبر مشكلة فى التكون وهى كثرة البدائل والأصناف من نفس النوع، فالشركة أصبحت تنتج 500 صنف، وبالتالى زادت مدة دورة إنتاج الدواء، وهو ما أدى الى حدوث نقص فى بعد الأنواع بشكل متكرر".
كما أن غياب قواعد تراخيص الشركات الجديدة أدى إلى تضخم الأزمة، حيث أنشئت شركات برأس مال لا يتجاوز 8 ملايين جنيه، وهو ما لا يكفى للإنفاق على أبحاث أو إنتاج أدوية جديدة فما كان منهم إلا إنتاج أدوية بديلة فقط.
وكذلك أدى انفتاح السوق إلى ظاهرة أخرى من الفساد وهى "عمولات توكيلات الدواء".
فعلى سبيل المثال القابضة للأدوية كانت ننتج صنف "البنادول"، وتصنع مادته الخام ويباع بجنية واحد، وفجأة وبدون أسباب أعطى توكيل إنتاجه لمورد من إنجلترا مقابل عمولة دفعت للوسيط المتمم للصفقة ليرتفع سعره إلى 8 جنيهات.
ونتيجة لهذا الفساد تحولت صناعة الدواء من سلعة إستراتيجية إلى استثمار مربح وخاصة فى الفترة من منتصف التسعينات إلى 2005، حيث كانت التسعيرة بلا قواعد، وبالتالى كان الدواء يحقق مكاسب غير محدودة والقطاع الخاص هو المتحكم فى التسعير وبطرق ملتوية بدأ تسعير الدواء بهامش ربح عالى جدا فعلى سبيل المثال الدواء الذى يتكلف 15 قرش كان يباع بـ 2 جنيه.
وأدى ذلك إلى أن تحقق بعض الشركات أرباحا تقدر بحجم رأس مال الشركة بالكامل بعد عام واحد من بداية الإنتاج وهو ما تنبهت له بعض الدول العربية مثل السعودية والكويت، وقاموا بشراء عدد من الشركات المصرية بأسعار مبالغ فيها فعلى سبيل المثال بيعت شركة بمبلغ 400 مليون جنيه، فى حين أن تكلفة إنتاجها 37 مليون، وقام البائع بإنشاء شركة أخرى تكلفت 500مليون ليبيعها ب 4مليار جنيه بعد عامين من إنشائها.
كما أن جشع بعض الشركات جعلها توقفت عن انتاج أنواع من الدواء وخاصة التى لا تحقق أرباحا عالية، وعلى الرغم من أنها قد لا تتجاوز 10% من إنتاج الشركة بالكامل ولكنهم لم يكتفوا بالمكسب العام مهما كان مربحا.
ويرى دكتور غراب ان السبب الأساسى للأزمة هو الفساد وسوء التخطيط، ففى مصر وزير الصحة لا سلطان له سوى على مستشفيات خاوية من كل شىء وما يعطيه سلطة وقوة هو الدواء باستثماراته الضخمة، وبالتالى فكل وزراء الصحة متشبثين بأن تظل المنظومة تابعة للوزارة.
والحل الوحيد هو إنشاء هيئة مستقلة للدواء كما هو سائد فى جميع دول العالم بل وبدأت بعض الدول العربية بإنشائها مثل الأردن، السعودية، وهو ما تم المطالبة به مرارا ولكن للأسف دائما ما كان يقابل بالرفض ومزال.
وعلى الجانب الآخر يوضح الدكتور أحمد رامى نقيب صيادلة القليوبية أن للأزمة جوانب أخرى، ولا يصح أن نلقى اللوم كاملا على شركات إنتاج الدواء ويجب النظر بعين الاعتبار إلى ما تواجه من عراقيل، فارتفاع سعر الدولار وانخفاض التصنيف الائتمانى فى مصر أدى إلى زيادة رفع سعر المواد الخام ورفض الشركات الأجنبية التوريد بالأجل وهو ما خلق أزمة مادية كبيرة لتلك الشركات.
كما أن استغلال بعض الجهات لتلك الأزمة مثل تدخل الوسطاء وبعض الموزعين وقيامهم بشراء كميات كبيرة من الأدوية وبيعها بعد فترة بأسعار عالية محققة أرباحا. وهو ما ساعد على خلق سوق سوداء، لذلك قامت وزارة الصحة مؤخرا بإنشاء خط ساخن للإبلاغ عن تلك المخالفات.
ويرى دكتور رامى أن الحل النهائى هو قيام منظومة قوية من التأمين الصحى تحت رعاية الدولة تعمل على توفير ودعم الدواء بأسعار تلاءم شرائح المجتمع.
فى حين يرى دكتور محمد نصار المنسق العام لحملة صيادلة مصر لإنتاج المواد الخام الدوائية ،أن مسئولية الأزمة موزعة بين الدولة وشركات الأدوية، حيث تعتمد صناعة الدواء فى مصر على استيراد المواد الخام بشكل كامل وهو ما يجعلها تتأثر بالأزمات الخارجية أو تغيرات سعر الصرف.
غير أن أزمات نقص الأدوية لا تتوقف أسبابها على العوامل الخارجية مثل الاستيراد فقط بل توجد عوامل داخلية لعل من أهمها التسعير فقواعد إعادة تسعير الدواء حاليا أصبحت صارمة وتستلزم مروره على 19 لجنة قبل الموافقة، وهو ما يدفع شركات إنتاج وتوزيع الأدوية إلى تعطيش السوق كأسلوب ضغط لرفع.
ويلخص لنا دكتور نصار الحلول فى عدة نقاط أهمها :
• إنشاء هيئة أو غرفة متخصصة بمتابعة توافر الأدوية بالسوق المصرية والعمل على منع حدوث أزمات نقص بجانب وضع آليات وخطط سريعة لاحتوائها.
• إنشاء مجلس أعلى للدواء فتوزيع مسئوليات قطاع الصيدلة والدواء فى مصر على عدد من الهيئات والوزارات أدى إلى انعدام القدرة على وضع خطط وسياسات دوائية ثابتة.
• فرض المسئولية القانونية لشركات إنتاج واستيراد الأدوية وأهمية وجود قواعد قانونية على تلك الشركات لتوفير الدواء الذى تم منحها ترخيص إنتاجه أو استيراده، بحيث يتم تغريمهما أو اتخاذ قرارات جزائية ضدها إذا تعمدت أو قصرت فى توفير الدواء دون إبداء الأسباب والمبررات التى اضطرتها لذلك .
• إعادة النظر فى قواعد تسعير الأدوية وجعلها أكثر مرونة.
• إنتاج المواد الخام الدوائية فى مصر: رغم قدم صناعة الدواء فى مصر إلا أنها تظل قاصرة على إنتاج الدواء فى صورته النهائية، حيث تستورد مصر أكثر من 85% من المواد الخام، لذا فيجب على الحكومة المصرية توجيه اهتمامها إلى إنشاء مصانع لإنتاج المواد الخام الدوائية فى مصر وتحفيز القطاع الخاص للخوض فى هذا المجال، وتذليل العقبات التى تواجهه.