ننشر بحثين "للإفتاء" حول الاعتداء على الكنائس وتفجيرها.."الدار": من الأمور المحرمة ويُعد تعديًا على ذمة الله ورسوله.. وتؤكد المواطنة مبدأ إسلامى أقرته الشريعة الإسلامية

الإثنين، 29 أبريل 2013 06:48 م
ننشر بحثين "للإفتاء" حول الاعتداء على الكنائس وتفجيرها.."الدار": من الأمور المحرمة ويُعد تعديًا على ذمة الله ورسوله.. وتؤكد المواطنة مبدأ إسلامى أقرته الشريعة الإسلامية دار الإفتاء
كتب لؤى على

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ما حكم الاعتداء على الكنائس ودور العبادة أو استهدافها بالهدم والتفجير؟
وما حكم ذلك إذا كان فيها أناس يؤدون عبادتهم؟
وبعض الناس يدَّعى أنه لا يوجد عهد ذمة بينهم وبين المسلمين، فهل هذا صحيح؟

سؤال ورد إلى دار الإفتاء المصرية والتى أجابت عنه ببحث مفصل يشمل جميع الأدلة من القرآن والسنة القولية والفعلية انتهت إلى أن هدم الكنائس أو تفجيرها أو قتل من فيها أو ترويع أهلها من الأمور المحرمة التى لم تأت بها الشريعة السمحة، بل ذلك يُعَدُّ تَعَدِّيًا على ذمة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وفاعل ذلك قد جعله النبى صلى الله عليه وآله وسلم خصمه يوم القيامة.

أما الذين يدعون أنه لا يوجد عهد ذمة بين المسيحيين والمسلمين، فهو كلام باطل ينقصه كثير من الإدراك والفقه؛ فالمواطنة مبدأ إسلامى أقرته الشريعة الإسلامية، وهى فى صورتها المتفق عليها معمول بها فى دساتير العالم الإسلامى وقوانينه، ومنها الدستور المصرى الذى ينص فى المادة الثانية منه على مرجعية الشريعة الإسلامية، وقد رسخ الإسلام مبدأ المواطنة منذ أربعة عشر قرنًا؛ وهو ما قام به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فى وثيقة المدينة المنورة التى نصت على التعايش والمشاركة والمساواة فى الحقوق والواجبات بين أبناء الوطن الواحد دون النظر إلى الانتماء الدينى أو العرقى أو المذهبى أو أى اعتبارات أخرى، ومن ثَمَّ فهذا العقد من العقود والعهود المشروعة التى يجب الوفاء بها.

الإسلام دين التعايش، ومبادئه لا تعرف الإكراه،ولا تُقِرُّ العنف؛ ولذلك لم يجبر أصحاب الديانات الأخرى على الدخول فيه، بل جعل ذلك باختيار الإنسان، فى آيات كثيرة نص فيها الشرع على حرية الديانة؛ كقوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: 256]، وقوله سبحانه: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: 29]، وقال جل شأنه: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِى دِينِ﴾ [الكافرون: 6].

ولَمّا ترك الإسلام الناس على أديانهم فقد سمح لهم بممارسة طقوس أديانهم فى دور عبادتهم، وضمن لهم من أجل ذلك سلامة دور العبادة، وأَوْلَى بها عناية خاصة؛ فحرم الاعتداء بكافة أشكاله عليها، بل إن القرآن الكريم جعل تغلُّب المسلمين وجهادهم لرفع الطغيان، ودفع العدوان، وتمكين الله تعالى لهم فى الأرض سببًا فى حفظ دور العبادة من الهدم وضمانًا لأمنها وسلامة أصحابها، وذلك فى قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِى عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِى الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور﴾ [الحج: 40- 41].

قال ابن عباس رضى الله عنهما: "الصوامع: التى تكون فيها الرهبان، والبِيَع: مساجد اليهود، و"صلوات": كنائس النصارى، والمساجد: مساجد المسلمين" أخرجه عبد بن حميد وابن أبى حاتم فى التفسير. وقال مقاتل بن سليمان فى "تفسيره" (2/ 385، ط. دار الكتب العلمية): "كل هؤلاء الملل يذكرون الله كثيرًا فى مساجدهم، فدفع الله عز وجل بالمسلمين عنها" اهـ.

قال الإمام القرطبى فى "تفسيره" (12/ 70، ط. دار الكتب المصرية): "أى: لولا ما شرعه الله تعالى للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء لاستولى أهل الشرك وعطلوا ما بَنَتْهُ أربابُ الديانات من مواضع العبادات، ولكنه دفع بأن أوجب القتال؛ ليتفرغ أهل الدين للعبادة، فالجهاد أمر متقدم فى الأمم، وبه صلحت الشرائع واجتمعت المتعبدات، فكأنه قال: أذن فى القتال، فليقاتل المؤمنون، ثم قوى هذا الأمر فى القتال بقوله: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ﴾ الآية، أى لولا القتال والجهاد لتُغُلِّبَ على الحق فى كل أمة؛ فمن استبشع من النصارى والصابئين الجهادَ فهو مناقضٌ لمذهبه؛ إذ لولا القتالُ لمَا بقى الدين الذى يذبّ عنه.. قال ابن خويز منداد: تضمنت هذه الآية المنعَ من هدم كنائس أهل الذمة وبيعهم وبيوت نيرانهم" ا.هـ.

وبذلك جاءت السنة النبوية الشريفة؛ فكتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأسقف بنى الحارث بن كعب وأساقفة نجران وكهنتهم ومن تبعهم ورهبانهم: «أَنَّ لَهُمْ عَلَى مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ مِنْ بِيَعِهِمْ وَصَلَوَاتِهِمْ وَرَهْبَانِيَّتِهِمْ، وَجِوَارَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، ألَّا يُغَيَّرَ أُسْقُفٌّ عَنْ أَسْقُفِّيَّتِهِ، وَلَا رَاهِبٌ عَنْ رَهْبَانِيَّتِهِ، وَلَا كَاهِنٌ عَنْ كَهَانَتِهِ، وَلَا يُغَيَّرُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِهِمْ، وَلَا سُلْطَانِهِمْ، وَلَا شَيْءٌ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ؛ مَا نَصَحُوا وَأَصْلَحُوا فِيمَا عَلَيْهِمْ، غَيْرَ مُثْقَلِينَ بِظُلْمٍ وَلَا ظَالِمِينَ» أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام فى كتاب "الأموال" (ص: 244، ط. دار الفكر)، وأبو عمر بن شبة النُّمَيْرى فى "تاريخ المدينة المنورة" (2/ 584- 586، ط. دار الفكر)، وابن زنجويه فى "الأموال" (2/ 449، ط. مركز فيصل للبحوث)، وابن سعد فى "الطبقات الكبرى" (1/ 266، ط. دار صادر)، والحافظ البيهقى فى "دلائل النبوة" (5/ 389، ط. دار الكتب العلمية)، وذكره الإمام محمد بن الحسن الشيبانى فى كتاب "السير" (1/ 266، ط. الدار المتحدة للنشر).

وذهب الإسلام لِمَا هو أبعد من ذلك؛ حيث أمر بإظهار البر والرحمة والقسط فى التعامل مع المخالفين فى العقيدة فقال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8].

وعلى ذلك سار المسلمون سلفًا وخلفًا عبر تاريخهم المشرف وحضارتهم النقية وأخلاقهم النبيلة السمحة التى دخلوا بها قلوب الناس قبل أن يدخلوا بلدانهم؛ منذ عهود الخلفاء الراشدين رضى الله عنهم وهلم جرًّا، فنص أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى عهده لأهل القدس على حريتهم الدينية وأعطاهم الأمانَ لأنفسهم والسلامةَ لكنائسهم؛ وكتب لهم بذلك كتابًا جاء فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبدُ الله عمرُ أميرُ المؤمنين أهلَ إيلياء من الأمان؛ أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها: أنه لا تُسكَنُ كنائسُهم ولا تُهدَمُ ولا يُنتَقَصُ منها ولا مِن حَيِّزها ولا من صَلِيبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرَهون على دينهم، ولا يُضَارَّ أحد منهم.. وعلى ما فى هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذى عليهم من الجزية. شهد على ذلك: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبى سفيان وكتب وحضر سنة خمس عشرة".

وكتب لأهل لُدّ كتابًا مماثلًا جاء فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبدُ الله عمر أمير المؤمنين أهلَ لُدّ ومن دخل معهم من أهل فلسطين أجمعين؛ أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصُلُبهم وسقيمهم وبريئهم وسائر ملتهم: أنه لا تُسكَن كنائسهم ولا تُهدَم ولا يُنتَقَص منها ولا مِن حيزها ولا مللها ولا مِن صُلُبهم ولا من أموالهم، ولا يُكرَهون على دينهم، ولا يُضَارَّ أحد منهم" رواهما الإمام الطبرى فى "تاريخه" (2/ 449، ط. دار الكتب العلمية).

ولمّا دخل رضى الله عنه بيتَ المقدس حان وقت الصلاة وهو فى إحدى الكنائس، فقال لأسقفها: أريد الصلاة، فقال له: صلِّ موضعَك، فامتنع وصلّى على الدرجة التى على باب الكنيسة منفردًا، فلما قضى صلاته قال للأسقف: "لو صلَّيْتُ داخلَ الكنيسة أخذها المسلمون بعدى وقالوا: هنا صلَّى عمر". ذكره ابن خلدون فى "تاريخه" (2/ 225، ط. دار إحياء التراث العربى).

ونقل المستشرقون هذه الحادثة بإعجاب كما صنع درمنغم فى كتابه "The live of Mohamet" فقال: "وفاض القرآن والحديث بالتوجيهات إلى التسامح، ولقد طبق الفاتحون المسلمون الأولون هذه التوجيهات بدقة، عندما دخل عمر القدس أصدر أمره للمسلمين أن لا يسببوا أى إزعاج للمسيحيين أو لكنائسهم، وعندما دعاه البطريق للصلاة فى كنيسة القيامة امتنع، وعلل امتناعه بخشيته أن يتخذ المسلمون من صلاته فى الكنيسة سابقة، فيغلبوا النصارى على الكنيسة"، ومثله فعل "ب سميث" فى كتابه: "محمد والمحمدية" اهـ نقلًا عن التسامح والعدوانية، صالح الحصين، ص: 120- 121).

وبمثل ذلك أعطى خالد بن الوليد رضى الله عنه الأمان لأهل دمشق على كنائسهم، وكتب لهم به كتابًا، كما ذكره البلاذرى فى "فتوح البلدان" (ص:120، ط. لجنة البيان العربى).

وكذلك فعل شرحبيل بن حسنة رضى الله عنه بأهل طبرية؛ فأعطاهم الأمان على أنفسهم وكنائسهم. كما ذكره البلاذرى فى "فتوح البلدان" (ص: 115).وطلب أهل بعلبك من أبى عبيدة عامر بن الجراح رضى الله عنه الأمان على أنفسهم وكنائسهم فأعطاهم بذلك كتابًا، كما جاء فى "فتوح البلدان" (ص: 129)، وكذلك فعل مع أهل حمص وأهل حلب، كما جاء فى "فتوح البلدان" (ص: 130، 146).

وأعطى عياض بن غنم رضى الله عنه لأهل الرقة الأمان على أنفسهم والسلامة على كنائسهم وكتب لهم بذلك كتابًا ذكره البلاذرى فى "فتوح البلدان" (ص: 172).
وكذلك فعل حبيب بن مسلمة رضى الله عنه بأهل دَبِيل، وهى مدينة بأرمينية؛ حيث أمَّنهم على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وبِيَعِهم، نصاراها ومجوسها ويهودها شاهدهم وغائبهم. وكتب لهم بذلك كتابًا، وكان ذلك فى عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضى الله عنه. كما فى "فتوح البلدان" (ص: 199).

وعن أُبَى بن عبد الله النخعى قال: أتانا كتاب عمر بن عبد العزيز: "لا تهدموا بيعة، ولا كنيسة،ولا بيت نار صولحوا عليه" أخرجه ابن أبى شيبة فى "المصنف"، وأبو عبيد القاسم بن سلام فى "الأموال" (ص: 123، ط. دار الفكر).

وعن عطاء رحمه الله أنه سُئِل عن الكنائس؛ تهدم؟ قال: "لا، إلا ما كان منها فى الحرم" رواه ابن أبى شيبة فى "المصنف".

وحين حصل شىء من الإخلال بهذه العهود رَدّه الخلفاء العدول وأرجعوا الحق لأصحابه: فروى أبو عبيد القاسم بن سلام فى كتاب "الأموال" (ص: 201) عن على بن أبى حملة قال: خاصمَنا عجمُ أهل دمشق إلى عمر بن عبد العزيز فى كنيسة كان فلان قطعها لبنى نصر بدمشق، فأخرجَنا عمرُ بن عبد العزيز منها وردها إلى النصارى.

وبهذا يتضح أن هدم الكنائس أو تفجيرها أو قتل من فيها أو ترويع أهلها من الأمور المحرمة التى لم تأت بها الشريعة السمحة، بل ذلك يُعَدُّ تَعَدِّيًا على ذمة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وفاعل ذلك قد جعل النبى صلى الله عليه وآله وسلم خصمه يوم القيامة؛ فقد روى أبو داود فى "سننه"، وابن زنجويه فى "الأموال"، والبيهقى فى "السنن الكبرى" عن صَفْوانَ بنِ سُليمٍ، عن عدةٍ (وعند ابن زنجويه والبيهقى: عن ثلاثين) مِنْ أبناءِ أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، عن آبائِهِم دِنْيَةً (أى ملاصقى النسب) عَنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قالَ: «أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ: فَأَنَا حَجِيجُهُ -أَى: خَصْمُهُ- يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، زاد ابن زنجويه والبيهقى: وأشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأصبعه إلى صدره «أَلَا وَمَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ حَرَّمَ اللَّهُ رِيحَ الْجَنَّةِ عَلَيْهِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ سَبْعِينَ خَرِيفًا». قال الحافظ العراقى فى "شرح التبصرة والتذكرة" (ص: 191):"وهذا إسنادٌ جَيِّدٌ، وإنْ كانَ فيهِ مَنْ لم يُسَمَّ؛ فإنَّهُم عِدَّةٌ مِنْ أبناءِ الصحابَةِ يبلغونَ حَدَّ التواترِ الذى لا يُشتَرطُ فيهِ العدالةُ" ا.هـ.

وأما ما يوجد فى التراث الفقهى الإسلامى من بعض الأقوال بهدم الكنائس: فهى أقوال لها سياقاتها التاريخية وظروفها الاجتماعية المتعلقة بها، ولا يصح جعل هذه الأقوال حاكمة على الشريعة؛ فالأدلة الشرعية الواضحة ومُجمَل التاريخ الإسلامى وحضارة المسلمين بل وبقاء الكنائس والمعابد نفسها فى طول بلاد الإسلام وعرضها، وشرقها وغربها، فى قديم الزمان وحديثه -كل ذلك يشهد بجلاء كيف احترم الإسلام دور العبادة وأعطاها من الرعاية والحماية ما لم يتوفر لها فى أى دين أو حضارة أخرى.

كما أن حكم الحاكم يرفع الخلاف؛ فإذا تخير الحاكم المسلم مذهبًا فقهيًّا رأى فيه المصلحة والأمن الاجتماعى فقد صار مُلزِمًا لكل مَن كان فى ولايته، ولا يجوز له مخالفته وإلا عُدَّ ذلك افتياتًا على سلطان المسلمين وخروجًا على جماعتهم وكلمتهم، وفى ذلك من الفساد ما يضيع مصالح البلاد والعباد.

كما أن فى الاعتداء على الكنائس والتعدى على المسيحيين من أهل مصر وغيرها من البلاد الإسلامية نقضًا لعقد المواطنة؛ حيث إنهم مواطنون لهم حق المواطنة، وقد تعاقدوا مع المسلمين وتعاهدوا على التعايش معًا فى الوطن بسلام وأمان، فالتعدى عليهم أو إيذاؤهم أو ترويعهم -فضلا عن سفك دمائهم أو هدم كنائسهم- فيه نقض لهذا العقد، وفيه إخفار لذمة المسلمين وتضييع لها، وهو الأمر الذى نهت عنه النصوص بل وأمرت بخلافه: قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1].

وروى البخارى فى صحيحه عن عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَر».

وروى ابن ماجه عن عمرو بن الحَمِق الخزاعى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَمَّنَ رَجُلًا عَلَى دَمِهِ فَقَتَلَهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ لِوَاءَ غَدْرٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

وفى رواية البيهقى والطيالسى فى مسنده: «إِذَاأَمَّنَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ عَلَى نَفْسِهِ،ثُمَّ قَتَلَهُ، فَأَنَا بَرِيءٌ مِنَ الْقَاتِلِ وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ كَافِرًا».

وروى البخارى عن على رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ».

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ» أى: عهدهم، وأمانهم، وكفالتهم، وحفظهم. وقوله: «يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ» أى: يتولى ذمتهم أقلهم عددًا فإذا أعطى أحد المسلمين عهدًا لم يكن لأحد نقضه، فما بالنا بولى الأمر، وقوله: «مَنْ أَخْفَرَ» أى: نقض العهد، وقوله: «صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ» أى: لا فرضًا ولا نفلًا، والمعنى: لا يقبل الله تعالى منه شيئًا من عمله.

ولا يخفى أيضًا ما فى هذه الأعمال التخريبية من الغدر والفتك وإيذاء المدنيين: وقد روى أبو داود والحاكم فى المستدرك عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يَفْتِكُ الْمُؤْمِنُ، الْإِيمَانُ قَيَّدَ الْفَتْكَ». قَالَ ابن الأثير فِى النِّهَايَة:"الْفَتْك أَنْ يَأْتِى الرَّجُل صَاحِبه وَهُوَ غَارّ غَافِل فَيَشُدّ عَلَيْهِ فَيَقْتُلهُ" اهـ.

ومعنى الحديث: أن الإيمان يمنع عن الفتك كما يمنع القيد عن التصرف، وقوله عليه الصلاة والسلام: «لَا يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ» هو خبر بمعنى النهي؛ لأنه متضمن للمكر والخديعة، أو هو نهى.

وقد وصَّى النبى صلى الله عليه وآله وسلم بأهل مصر وصيةً خاصّةً؛ فروى الطبرانى فى "المعجم الكبير" عن أم المؤمنين أم سلمة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوصى عند وفاته فقال: «اللَّهَ اللَّهَ فِى قِبْطِ مِصْرَ؛ فَإِنَّكُمْ سَتَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ وَيَكُونُونَ لَكُمْ عُدَّةً وَأَعْوَانًا فِى سَبِيلِ اللَّهِ»، قال الحافظ الهيثمى: "ورجاله رجال الصحيح".

وروى أبو يعلى فى "مسنده" وابن حبان فى "صحيحه" أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:«اسْتَوْصُوا بِهِمْ خَيْرًا؛ فَإِنَّهُمْ قُوَّةٌ لَكُمْ وَبَلَاغٌ إلى عَدُوِّكُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ» يعنى قبط مصر. قال الحافظ الهيثمى:"رجاله رجال الصحيح".
وروى ابن سعد فى "الطبقات الكبرى" -كما فى "كنز العمال" للمتقى الهندى (5/ 760، ط. مؤسسة الرسالة)- عن موسى بن جبير، عن شيوخ من أهل المدينة: أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه كتب إلى واليه على مصر عمرو بن العاص رضى الله عنه: "واعلم يا عمرو أن الله يراك ويرى عملك فإنه قال تبارك وتعالى فى كتابه: ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ يريد: أن يقتدى به، وأن معك أهل ذمة وعهد، وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهم وأوصى بالقبط فقال: «اسْتَوْصُوا بِالقِبْطِ خَيْرًا؛ فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا»، ورَحِمُهم: أن أمّ إسماعيل عليه السلام منهم، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ فَأَنَا خَصْمُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، احذر يا عمرو أن يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لك خصمًا؛ فإنه مَن خاصمه خَصَمَه".

والناظر فى التاريخ يرى مصداق خبر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم؛ حيث رحب أقباط مصر بالمسلمين الفاتحين وفتحوا لهم صدورهم، وعاشوا معهم فى أمان وسلام؛ لتصنع مصر بذلك أعمق تجربة تاريخية ناجحة من التعايش والمشاركة فى الوطن الواحد بين أصحاب الأديان المختلفة.

كما أن فى هذه الأعمال وهذه التهديدات مخالفة لما أمر به الشرع على سبيل الوجوب من المحافظة على خمسة أشياء أجمعت كل الملل على وجوب المحافظة عليها، وهى: الأديان، والنفوس، والعقول، والأعراض، والأموال، وهى المقاصد الشرعية الخمسة.

ومن الجلى أن الأعمال المسئول عنها تَكرُّ على بعض هذه المقاصد الواجب صيانتها بالبطلان، ومنها مقصد حفظ النفوس؛ فالمقتول مواطن غافل لا جريرة له، وله نفس مصونة يحرم التعدى عليها ويجب صيانتها، وقد عظم الله تعالى من شأن النفس الإنسانية، فقال: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32].

ولهذه الأعمال من المفاسد ما لا يخفى؛ ففيه تشويه للصورة الذهنية عن الإسلام فى الشرق والغرب، وتدعيم للصورة الباطلة التى يحاول أعداء الإسلام أن يثبتوها فى نفوس العالم من أن الإسلام دين متعطش للدماء وهى دعوى عارية من الصواب، وفى ذلك ذريعة لكثير من الأعداء الذين يتربصون للتدخل فى شؤوننا الداخلية بغير حق.

وقد أمر تعالى بسد الذريعة المؤدية لسب الله تعالى حتى لو كان الفعل فى نفسه جائزًا، فقال تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 108].

قال الإمام الرازى فى "تفسيره" (13/ 115، ط. دار الكتب العلمية): "دلت هذه الآية على أنه لا يجوز أن يفعل بالكفار ما يزدادون به بعدًا عن الحق ونفورًا؛ إذ لو جاز أن يفعله لجاز أن يأمر به، وكان لا ينهى عما ذكرنا، وكان لا يأمر بالرفق بهم عند الدعاء، كقوله لموسى وهارون: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾" اهـ.

هذا إذا كان الفعل فى نفسه جائزًا، فكيف إذا كان الفعل حرامًا فى الأصل؟ واستعمال القتل والترويع فى هذه الأعمال التخريبية يُسَمَّى بـ"الحرابة"، وهى إفساد فى الأرض وفساد، وفاعلها يستحقّ عقوبة أقسى من عقوبات القاتل والسارق والزاني؛ لأنّ جريمته منهج يتحرك فيه صاحبه ضدّ المجتمع. قال تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْى فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: 33].

أما قول بعضهم: إن العهد الذى كان بيننا وبينهم إنما هو عهد الذمة، وقد زال هذا العهد، ومِن ثَمَّ لا عهد لهم عندنا: فهو كلام باطل ينقصه كثير من الإدراك والفقه؛ فالمواطنة مبدأ إسلامى أقرته الشريعة الإسلامية، وهى فى صورتها المتفق عليها معمول بها فى دساتير العالم الإسلامى وقوانينه، ومنها الدستور المصرى الذى ينص فى المادة الثانية منه على مرجعية الشريعة الإسلامية، وقد رسخ الإسلام مبدأ المواطنة منذ أربعة عشر قرنًا؛ وهو ما قام به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فى وثيقة المدينة المنورة التى نصت على التعايش والمشاركة والمساواة فى الحقوق والواجبات بين أبناء الوطن الواحد دون النظر إلى الانتماء الدينى أو العرقى أو المذهبى أو أى اعتبارات أخرى، ومن ثَمَّ فهذا العقد من العقود والعهود المشروعة التى يجب الوفاء بها.






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة