معصوم مرزوق

سيناء.. كل سنة وأنت طيبة!

السبت، 27 أبريل 2013 03:04 م


صباح التاسع من يونيو1967، أعلن التليفزيون أن الزعيم جمال عبدالناصر سوف يلقى بياناً هاماً إلى الأمة، وفى نفس التوقيت تقريباً حضر بعض المواطنين إلى موقعنا الذى كنا نحتله كمقاومة شعبية عند الكوبرى ليقول لنا بانفعال أنه تم حصار أحد المظليين الإسرائيليين الذين تم إسقاطهم بالقرب من ميدان الخلفاوى.. أسرعنا وقد جهزنا بنادقنا النصف آلية، وأثناء المسافة بين موقعنا والميدان، كان فتانا يفكر بعذاب: «ماذا يفعل مظلى إسرائيلى فى ميدان الخلفاوى بشبرا؟».. كان الزحام شديداً، والناس على مختلف أطيافهم يتجمعون وهم يهتفون بانفعال ويقذفون بالحجارة وبكل ما تصل إليه أياديهم، وفى مركز الدائرة وقف شاب أشقر يرتدى الأوفارول المموه بكامل السلاح والعتاد وقد سال الدم وغطى وجهه، وهو يصرخ دون أن يبين صوته من كثرة الضجيج.

تمكن فتانا ورفاقه من شق الطريق والوصول إليه، وبصعوبة حجزوا بينه وبين المتزاحمين حوله، وكان أول ما فعلوه هو أن طلبوا منه تسليم سلاحه، فرفض الجندى بعناد وهو يتشبث بالبندقية ويقسم أنه جندى من قوات الصاعقة المصرية، والمحيطين به يشتمونه بأقذع السباب ويتهمونه بالكذب: «الإسرائيليون يعرفون العربيــة أحسن مما يعرفها العرب!!»، « اقتلوا ابن الكلب!!»... إلخ، ولكن السؤال الذى عجز الجندى أن يجيب عليه هو: «ماذا يفعل جندى الصاعقة المصرية فى ميدان الخلفاوى فى قلب القاهرة، بينما المعركة تدور رحاها على مسافة آلاف الأميال فى سيناء؟».

كل ما يذكره الفتى الآن أن الجندى أقسم وهو يبكى أنه قد صدرت إليهم الأوامر بالانسحاب.. أن كل رفاقه ماتوا.. أنه جوعان وظمآن ويريد أن ينام.

ستمر السنون ويصبح فتانا ضابطاً بقوات الصاعقة، ويحارب ضمن صفوفها فى معركة العبور، وينال وسام الشجاعة من الطبقة الأولى، وسيعرف يقيناً أن جندى الصاعقة يموت ولا يسلم سلاحه.

ضمن عائلته الصغيرة، جلس مشدوداً أمام شاشة التليفزيون، ولا يزال يتذكر الحوار المقتضب مع والده قبل أن يظهر عبدالناصر على التليفزيون، كان الفتى يؤكد لوالده أن ما أذيع عن انسحاب القوات المصرية إلى الخط الثانى ما هو إلا استدراج للقوات الإسرائيلية كى تدخل إلى سيناء، ويتم القضاء عليها قضاء مبرماً حتى ينفتح الطريق إلى فلسطين الحبيبة، وطفق الفتى يلون هذه الصورة بكل ما يملكه خياله الواسع من خصوبة، حتى ظهر وجه جمال عبدالناصر على الشاشة.. فى هذه اللحظة، فى هذه اللحظة بالذات، أدرك الفتى الهزيمة.. فهذا ليس وجه جمال عبدالناصر، وتلك ليست ملامح قائد منتصر أو لديه أمل فى الانتصار.. يتذكر أن قلبه كان يخفق بشدة بينما كان جمال يلقى بيانه، لم تذرف عيناه دمعة واحدة، رغم أن أصوات العويل والصراخ كانت قد بدأت فى الانفجار خاصة عندما وصل جمال إلى الجزء الذى أعلن فيه تنحيه عن السلطة.

لقد نهض فتانا بقلب كسير، نزع صورة عبدالناصر الكبيرة المعلقة فى حجرته، حملها بين يديه، ودون أن يتبادل كلمة واحدة مع أسرته نزل إلى الشارع.. ولم يكن وحده.. كان هناك رفاقه وآلاف من الرجال والنساء يصرخون، يهتفون.. توجه مع جمع غفير إلى قسم الشرطة القريب، كانوا يصيحون مطالبين أفراد القسم أن يسلموهم بنادق، ويتذكر الفتى أن المأمور خرج ووقف مذعوراً حائراً على أعلى درجات القسم، وهو يرجو الناس الهدوء، ويقسم لهم أنه ليس لديه سلاح لتوزيعه، وأنه سوف يطلب من رئاسته ذلك، وفى تلك الأثناء تعالت أصوات انفجارات هائلة، كانت المدفعية المضادة للطائرات حول ا
لعاصمة تضرب بشكل متواصل رغم أن أحداً لم يلحظ وجود صوت لأى طائرة قريبة.
ستمر الأعوام إلا أن موقف هذا الفتى – وقد أصبح الآن شيخاً– لم يتغير عما صورته لموقف هذا الفتى يوم 9 يونيو حين نزع صورة عبدالناصر من على الجدار دون أن يذرف دمعة واحدة، وحملها كى يسير ضمن الملايين هاتفاً بإصرار ودون توقف: «ها نحارب.. ها نحارب».. وبقدر ما كان ذلك رفضاً للهزيمة من الناحية النفسية، فإنه كان –وهو الأهم– إصرارا على تجاوزها بالجهد والعرق والدم إذا تطلب الأمر ذلك.. ولا أريد أن أزكى هذه الفتى الذى هو مجرد صورة مجسمة لجيل كامل، فلقد أعطى بالفعل الجهد والعرق والدم، والسطور السابقة هى استمرار لنضاله.


أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب



الرجوع الى أعلى الصفحة