طارق الزمر

من يوميات السجن السياسى: هل يمكن أن يكون للاستبداد مشروع وطنى!؟

الأحد، 21 أبريل 2013 02:53 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
قد تغفر بعض الشعوب لحكامها استبدادهم واستئسادهم عليها إذا وجدت فى مقابل ذلك مشروعاً وطنياً يتقدم، أو إنجازاً قومياً يتحقق، أما أن يجمع الحكام على شعوبهم قهرا مذلا، وفقرا مدقعا، أو أن يذيقوهم مذلة الاستبداد، فى ذات الوقت يذلون كرامتهم وكبرياءهم القومى، فهذا ما لا تتحمله الشعوب، وإن صبرت عليه حينا، فلن تصبر عليه أحيانا.

إن القراءة العميقة للحالة الاستبدادية العربية، تؤدى حتماً إلى ملاحظة أن الثابت الوحيد فى السياسة العربية هو «الكرسى» أما بقية قضايا الأمة فهى متغيرات، يساوم عليها ويضحى بها دون أى تردد، ودون تحقيق أى مكاسب عامة. هذا ما يمكن ملاحظته بوضوح عند التأمل فى تجارب الشعوب وتاريخ الأمم، فهى تمتلك ما يمكن أن نسميه مجازاً «عقلية استراتيجية»، تتجاوز عما هو أقل ضرراً أو خطراً، فى سبيل الوصول إلى ما هو أعظم فائدة وأعم نفعا.

وهذا لا يمنعنا من ملاحظة أن الإستبداد شر محض، كما أنه لا يمكن أن يستند إلى الدين، لأنه يحارب الدين، ولاسيما وهو يقوم بعمليات ظلم واسعة النطاق لكل المواطنين، كما أن الاستبداد لا يستند إلى مشروع وطنى، لأنه فى الحقيقة يعد خصما من مصالح الوطن العليا، كما أنه يعمل على استئصال كل عناصر الحيوية والخصوبة بل والرجولة من المجتمع، وهنا يجب أن نذكر النموذج الاستبدادى القرآنى، الذى كان (يقتل أبناءهم ويستحيى نساءهم إنه كان من المفسدين)، فلا ينبغى أن تغيب عن الأذكياء الدلالات الكامنة وراء قتل الذكور، بغض النظر عن ارتباط ذلك بالنبوءة التى كان يتحرك فرعون وكل أركان حكمه لعدم تحققها.

هكذا نكون قد وصلنا إلى جوهر القضية ولب الموضوع، حيث لا يمكننا أن نتصور أن يكون للاستبداد مشروع وطنى، أو أن يقوم بأى مشروع له صفة العمومية والديمومة، لأن الاستبداد فى حقيقته مشروع خاص يقوم على أنقاض أى مشروع عام، «فصاحب بالين كذاب»، وبال الاستبداد محصور فى امتلاك كل ما يمكنه من الإمساك بكل عناصر ومقومات السلطة والنفوذ، وفى سبيل ذلك فإنه يضحى بكل شىء، ويفرط فى كل أحد، هذا لو خطر له على بال!!

ولا يقل عن ذلك أهمية وخطورة: إهدار الاستبداد لآدمية الإنسان وكرامته، والتى هى العمود الفقرى لأى مشروع وطنى، أو أى شكل من أشكال النهضة المجتمعية، فإذا فقدت كرامة الفرد أو انتقصت فقد أهدرت كرامة المجتمع، ومجتمع فاقد للكرامة هو مجتمع أقل ما يمكن وصفه به أنه مجتمع سلبى، يعيش كما تعيش السوائم، لا يشغله أكتر من قوت يومه.

ربما يكون مجتمع السجن صورة مصغرة للشعب الواقع تحت سطوة الاستبداد وسوط الجلاد، وهنا نلاحظ أمراضاً لا حصر لها، ومثالب تفوق التصور، فمجتمع السجن أشبه بحظيرة الحيوانات، إن لم يكن أحط منها درجة أو دركات، وذلك ما يمكن تصوره إذا تأملنا فى عدة مشاهد، يمكنها أن ترسم أهم ملامح هذا المجتمع:

- غالباً ما تكون «العصى» هى الأداة الرسمية التى يتم استعمالها فى توصيل المفاهيم للمسجون فضلا عن إلزامه بالتعليمات ومنعه من الإتيان بالمحظورات.

- التعرض الدورى للتفتيش الذاتى المهين، والذى لا يدع منطقة أو مكانا إلا هتكها، وربما بأكثر مما يتخيله عقل أى إنسان لم ير عالم السجن من قبل.

- الإلزام بملبس موحد ذى لون أزرق داكن، لا يحمل أى صفة من صفات النظافة، وربما كانت الحلاقة إجبارية فى بعض الأحيان على سبيل العقاب، فيتم تشويه شعر الرأس بطريقة مهينة.

- لا توجد حرمة لهذا الكائن الإنسانى، فغالبا ما تجد جسده يُدكّ بالعصى، وينهال عليه الجنود بأحذيتهم، ونادرا ما يتم تكريمه بأن يقتصر الضرب على الأكف المجردة من العصى.

وحتى لا يتصور أحد أن الضرب اليدوى له أثر هين إذا لامس الجسد البشرى وذلك بالمقارنة بضرب العصا فإننى أجدنى مضطرا لسوق مثال على فداحة هذا الضرب اليدوى، الذى بالطبع له قوانين وتفسيرات أخرى. فقد كان من المألوف والمعتاد فى سجون مصر -فى التسعينيات خاصة- أنه لا يدخل فوج من المعتقلين سجنا دون أن تنظم لهم ما يسمى بحفلة الاستقبال، تشتمل على قدر كبير من التنكيل والتعذيب وجرعات مركزة من الإهانة، وكان يوجد شاويش يتميز بذراع طويل بشكل لافت، وكان كف يده كبير على غير المألوف، فكانت مهمته -إعمالاً لقاعدة التخصص، وأن يوضع الرجل المناسب فى المكان المناسب- هى استقبال كل من ينزل من سيارة الترحيلات من المعتقلين بصفعة واحدة، تتركه مترنحا بين يدى فريق كامل من الجنود الذين يجهزون عليه بالعصى، وكانت هذه الترحيلات تتم بإشراف أحد ضباط أمن الدولة، وعلى ما يبدو أن هذا الضابط قد استعجل أوراق تسليم مهمته، فنزل من سيارته الملاكى لمقابلة المأمور، فأراد أن يختصر طريقه، فدله حظه العاثر على المرور بجوار مطرقة الشاويش، التى كانت تعمل بشكل شبه آلى على وجه كل من ينزل من سيارة الترحيلات، فأخطأت كف الشاويش التى لا تخطئ!! ووقعت هذه المرة على وجه ضابط أمن الدولة، فسقط مغشيا عليه من ضربة واحدة.

لقد قدر لى أن أرى هذا الشاويش بعد هذه الوقعة بعدة سنوات حيث كانت ظروف السجون قد تحسنت، فحرصت على أن أعاين كفه الأسطورى هذا، وبالفعل سلمت عليه، فشعرت بثقل كفه الذى غاصت كفى فيه برغم كبر كفى، فقلت سبحان من نجا إخوانى من هذه المطرقة، وذكرت قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون).

إنسان مستباح هذه الاستباحة هو إنسان مهين، والإنسان المهين هو إنسان خامل، لأنه إنسان بلا كرامة، لهذا فإن بناء الحضارة الإنسانية أو أى نهضة وطنية لا يمكن أن يتم إذا أهدرت الكرامة الإنسانية أو انتقصت وصدق الله العظيم الذى نص فى كتابه الكريم على الكرامة الإنسانية قبل أن يعرف العالم ما سمى بعد ذلك بحقوق الإنسان (ولقد كرمنا بنى آدم وحملناهم فى البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا).





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة