وجدان العلى

الطاحونة!

الأربعاء، 17 أبريل 2013 10:53 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لم أتعود على ربط قلمى بقطار الأحداث اللاهثة، حتى لا أفقد الرؤية فى هذا الضباب المظلم، وأضيع الطريق الذى أقصد إليه، إلا أنَّ هنالك حوادث كاشفةً لكثير من العلل التى أصابت البناء العقلى والفكرى المعاصر، لاسيما علة العلل: الجهل الذى يصنع العقلية المستعبدة، التى لا تفكر، ولا يُراد لها أن تفكر!

وهذا الخلل الآكِلُ نبهتْ إليه كثير من الدراسات التى ترشد إلى ضرورة قيام السلطان المعرفى، الذى بقيامه تقوم دولة العقل، وتنشأ الشخصية المستقلة التى تبتكر دربها، وتنهض متوهجةً من رماد الذلة والتبعية المستوردة!

ولقد هُدِى إلى هذا الأمر كثير من العقول الشابةِ التى أتقنت النظرَ بعين الوحي- الذى هو تمام النور وكمال الهداية- فأبصرت هذا الكون وما فيه ومن فيه، وأعادت بناء الإنسان فيها بناءً راسخًا متحررا من هيمنة الأخطبوط العالمى الذى يمدُّ أذرعه المستبدة فى عقول وقلوب ونفوسٍ أناسٍ، صارتْ عقيدتهم أن لا حياة إلا فى ظلال هذا الأخطبوط، ولا وجود لنا حقيقيا إلا أن نكون نحن أحدَ هذه الأذرع المبشرة بسلطانه الثقافى والمعرفى المقدس!

وهذا الجهل الذليل يذكرنى بقصيدة أبى القاسم الشابى: "فلسفة الثعبان المقدس"، التى يسطو فيها ثعبان على طائرٍ لا ذنب له إلا التغريد فى الحقول والحدائق، فيتعجب المسكين متسائلا وهو فى قبضة الموت: ما الجريمة التى فعلتها فأنزلت بى هذا العقاب المجرم؟!
فيرد هذا الثعبان قائلا:
"إنِّى إلهٌ، طاَلَما عَبَدَ الورى
ظلِّى، وخافوا لعنَتى وعقابى

وتقدَّموا لِى بالضحايا منهمُ
فَرحينَ، شأنَ العَابدِ الأوّابِ"!

وَسَعَادةُ النَّفسِ التَّقيَّة أنّها
يوماً تكونُ ضحيَّةَ الأَربابِ!

فتصيرُ فى رُوح الألوهة بَضعةً
قُدُسيةً، خلَصَتْ من الأَوشابِ!

أفلا يسرُّكَ أن تكون ضحيَّتى
فتحُلَّ فى لحمى وفى أعصابى!

وتكون عزماً فى دمى، وتوهَّجًا
فى ناظريَّ، وحدَّةً فى نابى

وتذوبَ فى رُوحِى التى لا تنتهى
وتصيرَ بَعْض ألوهتى وشبابى؟!

إنى أردتُ لك الخلودَ، مؤلَّهاً
فى روحى الباقى على الأحقابِ!

أرأيت هذه الفلسفة المتأنقة، التى تجعل من البطش والجريمة واحتلال العقول والقلوب والدول، وإفناء البشر بالملايين شيئًا حضاريًا يريك الغازى فى صورة "المُخَلِّص"، والفكرة الهشةَ المريضة، فلسفةً عبقريةً تُؤَلَّفُ فيها الكتب، وتُعقَد المؤتمرات، وتُدَرَّس فى المدارس والجامعات؟!

هى هى الفلسفة نفسها التى درَّست لمثلى فضائل الحملة الفرنسية التى حملت مشاعل التنوير إلى مصر، وهى هى التى بشَّرت بالحلم الأمريكى الذى يمر عبر فوهة الدبابات والرشاشات وعلى رؤوس الصواريخ النووية، وهى هى التى جعلت من احتلال العراق وتدميره نشرًا لقيم الحرية والعدالة فى العالم!

كنت أسأل نفسى كثيرًا: ما الذى مسخ أبجدية الأشياء فى عقولنا، وجعلها كالخزف المكسور لا يحمل وعيا ولا يروى ظمأ؟!

ولا أجد الإجابة إلا فى أن هذه الأمة أُرِيد لها أن تكون تابعةً، مُحَاصَرةً بالجهل الذى يقتل كل محاولة تسعى لإنشاء سلطانٍ معرفى يقوم على قاعدة "الثقافة المتكاملة" التى تفردت بها هذه الأمة، لأن معها الوحى المعصوم.

وكل فقر عقلى، وتخلف فى النظرة الشرعية والسياسية والفكرية والثقافية، وما شئت من زوايا حياتنا المعاصرة، إنما هو لذهاب ذلك السلطان المعرفي، حتى كاد فعل "القراءة" أن يكون شيئا استثنائيا يلتحق بوصف "الندرة"، لأن "الكسل" صار نمطًا متغلغلًا فى منظومة الحياة العربية المعاصرة بقطاعاتها المختلفة!

ولذا كان حجر الزاوية فى تمرير "فلسفة الثعبان المقدس" هو تنصيب جماعة "دنلوب" على رأس وزارات التربية والتعليم فى عالمنا العربى، حتى يحال بين ذلك العقل وبين هيمنة الوحى، فينظر بعينٍ مستعارة، وروح ذليلة مندهشة، وعقل مسلوبٍ خامل، وإرادة مختنقة لا تكاد تتنفس، ثم ترى بعد هذا كله من يتحدث عن "المشروع والهوية"، وهم لا يعرفون ماهية ذلك المشروع ولا معالم تلك الهوية، إلا أن يكونوا ناقلين، وياليتهم يحسنون النقل!

وانظر بيان ذلك فى تعليقات بعض المشهورين على التفجيرات فى بوسطن، ومكتبة كيندى لترى أن الكثيرين يتكلمون بذهنيةٍ تكرس "القابلية للاتهام"، كأننا صرنا معدنَ الجريمة العالمية، فلا بد – إذن - من ممارسة طقوس الضراعة والاعتذار بين يدى الثعبان المقدس حتى يرضى عنهم ويقبلهم قربانًا لمجده العظيم!

وأعود مرة أخرى لأتساءل: ما الذى مكَّن هذا الطغيان المتكبر فى تلك النفوس الرخوة؟!

فانصرف إلى آياتِ الحديث عن الظالمين ومصائرهم فى نهاية سورة إبراهيم، وأجد قوله تعالى: "وليتذكر أولو الألباب"، فتقف تلك الكلمات بجلالها فى ختام الحديث عن الطغاة والظالمين لتُبَيِّن أن المستبد لا يعيش إلا فى ظلال عقول خاوية تحتضنه، مفلسةٍ من النظر الصائب والرؤية المستقيمة التى لا ترتعش أمام الإرجاف.

ولن يكشفَ الظلمَ بمكره ودسِّه وكَذِبه إلا ذو لُبٍّ" عقل" لا ينخدع ببهرَج كاذب، ولا بكلام زائف، لأنه يعرف أن الثعبان مهما لان ملمسه وخفى أثره، محترفٌ لنفث السم: فكرةً وسلوكًا وثقافةً.. ولكن يبدو أن البعض منشغل بطاحونة المكاسب والخسائر التى ستمكنه من كرس قادم فى برلمان يجوِّد من رتبته فى منظومة التبعية!








مشاركة




التعليقات 6

عدد الردود 0

بواسطة:

عمر من غزة

مقال رائع

عدد الردود 0

بواسطة:

رمضان جمال

ماشاء الله

عدد الردود 0

بواسطة:

مواطن

دائما أنت رائع أيها الفيلسوف الكبير

شكرا لليوم السابع على مقالات هذا الكاتب الكبير ..

عدد الردود 0

بواسطة:

مهندس مصرى

ماشاء الله

عدد الردود 0

بواسطة:

محمود

جزاك الله خيرا

رائع جدا خاصة الخاتمة تحفة ربنا يكرمك

عدد الردود 0

بواسطة:

سحر سليم

جزاكم الله كل خير

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة