ربما كان أسهل شىء فى أحداث الكاتدرائية هو تحميل الدكتور محمد مرسى مسئولية ما جرى ومن خلفه وزير الداخلية وجهازه الأمنى، ثم ننصب المشانق للرئيس وحكومته التى تفنن البعض فى وصفها بأشد العبارات، ولا ننسى فى الطريق أن نكيل الاتهامات لجماعة الإخوان المسلمين بل ونتهمها بأنها هى التى قامت بنشر الفتنة بين أبناء الخصوص، وأرسلت بعناصرها المدربة على مقتل المسلمين والمسيحيين على حد سواء للفت الانتباه عن خطتها فى السيطرة على الدولة، كما فعلت فى تسميم طلاب المدينة الجامعية بالأزهر للانتقام من الدكتور أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر.
هذا الخيال المريض الذى يفوق روايات أدهم صبرى ورجل المستحيل، هو ما يؤدى إلى تهميش القضايا وتسطيحها للفت الأنظار عن الأسباب الحقيقية لما يجرى من حولنا، فأحداث الكاتدرائية هى امتداد لأحداث الاتحادية فى مراحلها المختلفة، ومن بعدها ميدان التحرير وقصر النيل، ثم بورسعيد والمحلة والمنصورة، وكذلك المقطم ولكنها هذه المرة جاءت بلون مختلف، فهى مثل كرة اللهب كلما أطفأت لها جانبا انتقلت إلى مكان آخر لإشعال جزء من جسد الوطن المظلوم والمكلوم.
وبالتأكيد لا يمكن أن نقول، إن الرئيس ليس مسئولا عما جرى سياسيا على الأقل، فهو مسئول لا شك فى ذلك عن كل ما يجرى على تراب مصر، وكذلك وزارة الداخلية التى أصبحت قاسما مشتركا فى كل الأحداث، ولكننا يجب علينا أن ننظر إلى ما جرى فى الخصوص وحتى الكاتدرائية بشىء من التدقيق إذا أردنا أن نبحث عن الأسباب المنطقية والحقيقية وليس عن الأعراض الهامشية والتحليلات الفضائية التى أصبحت بمثابة الشماتة فيما يجرى وكأن حرق الوطن لن يضار فيه إلا الإخوان المسلمون الذين جاء منهم رئيس ومرشح أن تكون منهم الحكومة عندما تجرى الانتخابات البرلمانية.
ما جرى باختصار هو ترجمة لقول المخلوع- لا سامحه الله- عندما وضع تصور مستقبل مصر خلال أحداث الثورة بقوله أنا أو الفوضى.. فنظام مبارك الذى لم يغادرنا حتى الآن هو صانع الفوضى ومحركها بسياسات زرعها طوال ثلاثين عاما جرفت معها الحياة السياسية وهدم بها البنية المجتمعية للشعب المصرى، وأراد خلخلة عموده الفقرى من خلال هدم العلاقات الإنسانية والاجتماعية بين أبناء الشعب والتى نجح فيها باقتدار، ناهيك عن الفساد والتردى الاقتصادى، حتى غدونا على هذا الحال الذى يحتاج إلى حلول حقيقية وليست نظريات إعلامية وفلسفات سياسية.
وعندما يقول أحد، إن أذرع نظام مبارك هى الشماعة الجاهزة لدى أمثالى فلا شك أن ردى لن يكون بالنفى، لأن نظامه باقٍ حتى الآن فى مكانه مدعوما فى ذلك بحالة التخبط السياسى التى يصر البعض على صناعتها بل واستمرارها حتى يظل الرئيس فى خانة رد الفعل، ولا يجد فرصا للفعل، لأن لو وجد الفرصة لأوجد الكثير من الحلول الجذرية التى تقضى على أساس المشكلة وليس عرضها حتى لو تألمنا لبعض الوقت.
فالسلاح الذى غزا مصر قبيل سقوط مبارك وحتى يومنا هذا لا يتحمل وجوده بالتأكيد الرئيس مرسى، ولكنه بلا شك يتحمل مسئولية محاصرته وجمعه عن طريق وزارة الداخلية التى تصر على أن تكون لغزا محيرا يحتاج إلى وقفة، فنحن جميعا- معارضين قبل المؤيدين- نؤمن أن أجهزة الوزارة تعرف جيدا جيش البلطجية الذى صنعه حبيب العادلى (كما جاء فى تقرير لجنة تقصى الحقائق التابع للمجلس القومى لحقوق الإنسان حول معركة الجمل بعد أحداث الثورة بأسابيع)، وتستطيع محاصرته والقبض على كل مكوناته، كما أن لديها الكثير من الأدلة الحقيقية والحرفية الشرطية التى تمكن القضاء من محاكمتهم وليس إطلاق سراحهم كما يحدث فى الغالب، ولكن واضح أن البعض داخل جهاز الشرطة يصر على أن يصنع من هذا الجيش المعلن لهوا أو شبحا يظل يهدد المصريين ويظهر فى كل حدث، إما بدعوة فى بعض الأوقات أو بدونها فى أغلب الأوقات.
ولذلك فإن الأصوات المطالبة بضرورة هيكلة الداخلية لديها كل الحق خاصة إذا كانت الهيكلة ترمى لتغيير عقيدتها الأمنية التى تربت عليها طوال عقود من الزمن، فهى تربت فى ظل النظام البولسى ومن قبله العسكرى على القهر والبطش وخدمة النظام، ولكنها بعد الثورة تحتاج إلى تغيير فى فلسفتها وطريقة أدائها، وأعتقد أن هناك الكثيرين داخل جهاز الشرطة يريدون ذلك ولكن هناك أيضا من لا يزال يدين بالولاء لسطوة الدولة البوليسية، بل وما زال الأمل يحدوه فى رحيل الرئيس مرسى وعودة من يمنحه الفرصة لاستعادة البطش والقهر، ولذلك ليس غريبا أنه مع اقتراب كل خطوة لإعادة الهيكلة يخرج علينا من يحذر من خطة الأخونة لقطع الطريق على أية محاولة للقضاء على هذه الصناعة المتقنة من الفوضى.
أما الإعلام الذى لعب بعض أفراده دور (المنفاخ) للأزمة فهو لا يدرى أنه بذلك يرسخ للطائفية فى أبشع صورها، رغم أن دوره الوطنى يحتم عليه أن يكون صوت العقل الذى يساهم فى تحجيم الخطر وليس صوتا لتأجيج المشاعر والمتاجرة بالدم المصرى مسلما كان أو مسيحيا.
أقول ذلك وأنا أحد أبناء هذه المهنة ولكن ما أشاهده وأسمعه واقرأه من بعض الزملاء الصحفيين والإعلاميين يحتاج منهم إلى وقفة ضمير، وأعود لأكرر أن الوطن عندما يحترق لن يفرق بين مسلم ومسيحى أو بين إسلامى وعلمانى، وليس معنى أن هناك مواقف سياسية ضد الرئيس والإخوان أن نترك منافذنا الإعلامية ساحة للمتاجرة الرخيصة باستقرار الوطن، فما أسهل أن نسكب البنزين على النار لكى يحترق الوطن، وكلى ثقة أن زملائى لن يكونوا هذا البنزين الذى يهدد بالفعل بإحراق الوطن.