صعب جدا أن تجد فى الحياة صديقا لا يكلفك أى عناء روحى، لكل صديق هفوة وربما هفوات، ولا توجد صداقة لا تشوبها يوما شائبة ما، لكن فاروق عبدالوهاب الكاتب والمترجم العظيم كان من هذا النوع من البشر الذين عرفوه لا يمكن أن تفارقهم بسمته حين يتذكرونه، ولا سكوته حين يحتدم النقاش إلى ناحية لا يوافق عليها، ولا فرحه بكل كتاب عربى جديد يحمل فكرا متقدما أو إبداعا جميلا، كم هى الأعوام التى مضت الآن على غربة فاروق عبدالوهاب فى أمريكا، أربعون عاما.. تخرج فى كلية الآداب جامعة القاهرة فى الستينيات وحصل منها على الماجيستير، وظهرت مقالاته الجميلة فى فن المسرح فى المجلات الأدبية، ثم سافر للدكتوراة من جامعة مينيسوتا الأمريكية، ومثل كثيرين ضاقت بهم الأرض بما رحبت بعد هزيمة 1967 فلم يبق فى مصر طويلا.. وفى مدينة شيكاجو استقر أستاذا للأدب العربى بمركز دراسات الشرق الأوسط، وشاغلا كرسى أستاذية ابن رشد بجامعة شيكاجو بعد أن كان صيته باحثا وناقدا قد ذاع فى مصر، انشغل على غير العادة ليس بترجمة الأدب والفكر العالمى إلى العربية، لكن بترجمة الأدب العربى إلى الإنجليزية، فترجم ليوسف إدريس وميخائيل رومان، ثم انتقل إلى فن الرواية بعد أن تقدمت السنين، وبعد أن صارت الرواية العربية بستانا عظيما ترجم لى ثلاث روايات، هى: البلدة الأخرى، ولا أحد ينام فى الإسكندرية، وطيور العنبر، ثم ترجم لبهاء طاهر والغيطانى وخيرى شلبى وعلاء الأسوانى وهالة البدرى، وصار من أهم المترجمين الذين يستعين بهم قسم النشر فى الجامعة الأمريكية.
صارت زياراته لمصر موسما للمحبة بيننا، نلتقى ونتسامر ونضحك ويترك خلفه أفقا من الجمال والود والتسامح، وصرت كل عام أنتظر شهر أغسطس الذى يأتى فيه فاروق إلى مصر لأغير نظام حياتى وأؤجل كل شىء لنسهر معا، وعاما بعد عام والزمن يأخذ منا وفاروق يتعرض للمرض أكثر من مرة وللعمليات الجراحية فى أمريكا أكثر من مرة، ويظل مبتسما متفائلا منكبا على العمل، وقبل وفاته بأيام تذكرته وفكرت فى الصيف، وهل سيتأخر فاروق هذا العام ليأتى فى سبتمبر كما فعل العام الماضى أم سيأتى فى موعده القديم، وفكرت أن أدخل على صفحته على «الفيس بوك» لأسأله، وكما يحدث دائما فى مثل هذه الحالات يشغلك شاغل كونى كأنه يتربص برغبتك لتكتشف أن من كنت تريد أن تخاطبه أو تزوره قد مات، وتشعر بالألم مضاعفا، لقد ضاعت الفرصة الأخيرة التى كانت بين يديك أن تطل على صديقك أو من تحب، نحن أغبياء لا ندرك ذلك أبدا إلا بعد وقوع القدر، ورغم معرفتنا بذلك نعود إلى ذلك السهو من جديد.
كنت على سفر إلى المغرب لحضور فعاليات معرض الكتاب العربى فى كازا بلانكا، وعلى غير العادة كان الجو ممطرا بشكل رهيب والعواصف لا تنقطع رغم أن هذا هو الربيع وليس الشتاء، وتركت نفسى للهواء يكاد يحملنى عن الأرض، وتركت نفسى للمطر على المحيط، أنظر للسحب السوداء التى تكاد تلامس الماء وتصل إلى الشاطئ وأقاوم الهواء الذى يكاد يخلعنى عن الأرض، ومن يقابلنى خارجا من الفندق أرتدى قميصا فوقه جاكت صيفى يندهش، فالناس كلها صارت ترتدى البلاطى وتضع الكوفيات على عنقها وتغلق كل منفذ للهواء يصل منه إلى الجسد، وأنا أفتح صدرى لهذا كله وأشعر أننى فى حاجة شديدة لهذا المطر وهذا الهواء العاصف يكاد يحملنى عن الأرض كل يوم صباح ومساء، بل وصل جنونى إلى درجة أن أترك زجاج الغرفة فى الدور الخامس عشر من الفندق مفتوحا للهواء الصاخب، بينما الجميع يغلقون كل شىء ويشغلون التكييفات للدفء، سألت نفسى لماذا هذا الاحتياج للمطر، للحظة فكرت أنه رد فعل للحياة الساخنة التى نعيشها فى القاهرة التى وصلتنى بحرائق المحكمة الجنائية بباب الخلق وأنا هناك، وفكرت أننى على عادتى السكندرية أحب المطر والهواء، لكن ما حولى عواصف تهب من المحيط الأطلنطى تفوق فى قوتها عواصف البحر المتوسط التى حين تبلغ مداها تجعلك تجرى أمامها، أما هذه فتكاد تطيرك معها، فى ذلك الوقت الذى كنت أشبع نفسى فيه بالمطر والهواء كان فاروق قد غادر الحياة، أنا الذى فكرت فيه منذ أيام وكيف سيكون موعده هذا العام، جعلنى المطر والريح أكثر قوة وقدرة على احتمال ما سأجده فى مصر من مصائب يبتكرها نظام الإخوان، وبالفعل فى اليوم الثانى لعودتى كانت كارثة الخصوص وكارثة العباسية، ورغم الألم الكبير بسبب هذا الغباء القاتل الذى تدار به حياتنا الآن، هذا القصد وهذه النية المبيتة فى الحقيقة لخراب البلاد لتصبح مصر ولاية لا قيمة لها فى كذبة اسمها الخلافة، ولا أعرف لماذا لا تكون مصر قوية وعظيمة فى هذه الخلافة المزعومة، إلا أننى ضممت ما حدث لما قبله من مصائب يتفنن فيها هذا النظام كل يوم، وكان فاروق قد مات وأنا لا أعرف ولا أحد فى مصر يعرف، وحين عرفت نسيت كل المطر الذى تركته يملأ روحى وكل العواصف التى منحتنى القوة والقدرة على التجدد، وأدركت أنها كانت رغبة مكبوتة داخلى أن أكون أكثر قدرة على احتمال الفجيعة، لكن صار موت فاروق عبدالوهاب معلقا أمامى فى الفضاء، وابتسامته تمشى أمامى وأنا أمشى فى شارع طلعت حرب غير مبال بما حولى من بشر، ولا مدرك لنظرات الناس والحزن غيمة على وجهى، لم تسعفنى أمطار المحيط ولا عواصفه التى ظننت أنها منحتنى القوة، ولم يعطنى الموت الذى حولى لأجمل شباب الوطن مناعة وقدرة على الاحتمال وشعرت أننى دخلت كهفا مظلما.
كان فاروق عبدالوهاب وحده هو الذى يملأ روحى بالراحة والدعة كل صيف حار، وكنت أطمع أن يتم ذلك فى كل صيف يأتى، لقد صمم فاروق العظيم على أن يريح الجميع إلى أقصى مدى فأوصى بدفنه فى شيكاجو، المدينة الأمريكية الجميلة التى قضيت فيها معه أسبوعين فى التسعينيات كانا من أجمل الأيام، سامحنى أخى فاروق لم أعد قادرا على احتمال الفقد رغم أنى احتملت أمطار وعواصف المحيط، وسؤالى الآن إلى كليات اللغات بجميع جامعات مصر: هل يمكن أن تفكروا فى تكريم هذا الرجل العظيم الذى خدم الثقافة العربية أكثر من أى جامعة كاملة؟ هل نطمع فى مهرجان لتكريمه، والأهم هل نطمع فى قاعات درس تحمل اسمه؟
لك الرحمة يا أخى فارق بقدر ما قدمت للأدب العربى من عمل عظيم وما أعظمه وأجله عند الله والناس، ولزوجتك الأمريكية الرائعة أستاذة الأدب العربى أيضا الصبر الجميل.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة