يطل علينا الشيخ عبد القادر بقامته الشامخة وزيه الأزهرى المهيب، ونحن لم نزل تلاميذ فى الصف الأول الثانوى بمدرسة أبو قرقاص الثانوية بنين– مدرسة جمال عبد الناصر الآن- بالفكرية (محافظة المنيا)، إنه مدرس اللغة العربية الجديد. يلقى علينا تحية الصباح بصوت يفوح نقاء ويشيع فى الأجواء دفئا وحميمية، يكتب جملة على السبورة ويطلب منا أن نفكر فيها، ونسجل أفكارنا فى كراساتنا.
على مدى 45 دقيقة (زمن الحصة) يظل الشيخ الجليل يرقبنا، دون أن يراقبنا، بعيون تشع حبا وحنانا، وقبل نهاية الحصة بدقائق، يطلب منا التوقف عن الكتابة، ليجمع منا الكراريس، ويستودعنا بين يدى الله، ويذهب.
يعودنا فى اليوم التالى، متأبطا حقيبته الجلدية القديمة، مطلا علينا بوجه ضاحك دون ابتسامة، ثم يبدأ فى توزيع الكراسات على أصحابها، بعد أن يلقى نظرة خاطفة على ما كتب كل منا، ويوجه له النصيحة المناسبة.
انتهى شيخنا الأزهرى الجليل من توزيع الكراريس، دون أن أتسلم كراستى، لكنه لم يتركنى طويلا نهبا لمخاوفى وقلقى، إذ سرعان ما فتح حقيبته الجلدية وأخرج منها كراسة، وقرأ اسمى الكامل المكتوب على (التيكت) المثبت على غلافها، ورفع عينيه باحثا عمن أكون، وقال بصوت يملؤه الفخر والفرح كلمات مديح لم أعد أتذكرها بالنص، ثم طلب منى أن أقرأ ما كتبت على زملائى.
***
لم يتوقف شيخنا الجليل أمام اسمى الكامل الصارخ فى مسيحيته، ولم يزعجه أن يشجع (كافرا) غير موحد بالله ويأخذ بيده، وبدلا من أن يحاول (هدايتى) إلى (طريق الجنة) أو يلوح لى بدفع الجزية، زودنى –من مكتبته الخاصة- بكثير من الكتب فى الفنون والعلوم والآداب، وبما يتناسب مع مرحلتى العمرية آنئذ، كان بعضها كان هدية لا ترد.
كان ذلك زمان مختلفا، الدين لله فى الجامع والكنيسة، والوطن للجميع فى الشارع والقرية والمدينة، فى المدرسة والمصنع والحقل. الإيمان فى القلب لا يسمح لأحد أن يتجاوز فى حق عقيدة الآخر، أو حتى يفكر فى مناقشتها، إنه الإيمان الذى يجعل من العيد الدينى عيدا للوطن بكل أبنائه، بعضنا يحتفل بعيده، وبعضنا يشارك المحتفلين أفراحهم.
كان ذاك زمانا مختلفا، بدت فيه الفواصل بين العام والخاص واضحة كالشمس حادة كما السيف، لم يكن لدى الناس متسع من الوقت للدخول إلى المجال الخاص للأخر، حيث كان المجال العام مليئا بالثقافة والأدب والفن والعلوم، والأحلام تلتف حول مشاريع للبناء والتنمية، وبما يرفع الوطن بكل أبنائه إلى مصاف الدول الكبرى.
كانت الفلوس قليلة، لكنها كانت نقية، برائحة مصرية، لا تلوثها روائح النفط ولا الدولار.
***
لكن............
هل تعلم يا شيخنا الجليل أن مياها كثيرة قد جرت فى كل الأنهار؟
زمانك يا شيخنا الجليل أصبح «ما أدراك ما الستينيات»، وبات الأزهر والكنيسة فى مرمى نيران مشروع النهضة الحديث. ومازال الناس يؤخذون على انتماءاتهم الاجتماعية والدينية، ويتنازعون على ملكية وطن، رغم أننا جميعا ضيوف ثقيلو الظل على سلطة تتبدى معالم فاشيتها الدينية بامتداد المسافة من مصر الجديدة وحتى المقطم.
وطنك يا شيخنا الجليل مازال أكثر البلدان تدينا وأكثرها فسادا، بينما حكامنا الجدد لا يؤرقهم سوى هدم الأهرامات ومطاردة السائحين الإيرانيين.
***
إيه يا شيخ عبد القادر
مصر تفتقد زمانك، وتوشك على الاحتراق بنيران زمان غادر، لكن طيفك لم يزل يعاودنى فأرى ضوءا باهتا فى آخر النفق الطويل.
عدد الردود 0
بواسطة:
محمود خالد
وهل يعود زمان مضى عشنا فيه بفخر الانتماء؟