هب الخريف قبل آوانه مع صعود التيار الإسلامى إلى السلطة فى دول الربيع العربى – ولم يكن هذا لأنه تيار إسلامى - ولكن لأن القوى السياسية الآخرى وضعت أولوية الإسقاط والإنقسام ورفع شعار من "ليس معى فهو ضدى" والتى كانت بمثابة النواة القاتلة لمؤسسية الدولة، حيث وظف كل طرف الأحداث فى خدمة ما ينادى به وفقاً لمقولة ميكافيللى "الغاية تبرر الوسيلة" دون عناء الاهتمام بكون هذا أو ذلك ديمقراطى أو غير ديمقراطى أو كونه فى صالح البلد أم خرابها.
ومن هنا جاء الوجه القبيح للبعض ممن يشتغل السياسية تحت غطاء المصلحة العامة لتحقيق المصلحة الخاصة، وهذا هو السبب الحقيقى لما نحن فيه الآن، والعامل الرئيسى لعجزنا عن بناء توافق فى وقت ينزف فيه الاقتصاد ويهان فيه دم المواطن.
وانطلاقاً من هذا، نجد معالم هذا الواقع تتأرجح فى إيطاليا، فبعد الانتخابات البرلمانية لمجلسى النواب والشيوخ فى فبراير 2013، ومع تقارب النتائج بين القوى السياسية الرئيسية والتى تتمثل فى يسار الوسط بقيادة بيير لويجى بيرسانى ويمين الوسط بقيادة سيلفيو برلسكونى رئيس الوزراء الذى استقالة حكومته فى ديسمبر 2012، وحركة 5 نجوم بزعامة بيبى غريلو، فشلت المحاولات الرئاسية للوصول إلى توافق لتشكيل الحكومة الجديدة.
ويرجع هذا الفشل إلى تمسك كل طرف من القوى السياسية فى حقه بتشكيل الحكومة، وعدم الثقة فى الطرف الآخر، فحركة 5 نجوم ترفض دعم حكومة يقودها بيرسانى أو أى حكومة أخرى لا تقودها الحركة، ومن ناحية آخرى يتمسك يسار الوسط برفضه الانضمام إلى ائتلاف يشارك فيه رئيس الوزراء الأسبق برلسكونى.
وفى هذا الإطار تتشابه الظروف التى تمر بها إيطاليا بالحالة المصرية بعد الثورة لاسيما فيما يخص طبيعة العلاقة بين الرئيس ورموز المعارضة، ويتبين ذلك فى حالة الجمود السياسى الذى أصاب الأحزاب والحركات السياسية فى إيطاليا والذى أدى إلى ضعف قدرتها على مواجهة الأزمة الاقتصادية التى أدت إلى حالة ركود عميق منذ أكثر من عام، حيث وصل الدين العام إلى 2.6 تريليون دولار وتزايد البطالة إلى معدلات قياسية خاصة بين الشباب؛ وفى وقت يعانى فيه المواطن من سياسات التقشف، تعاند القوى السياسية رافضة أى توافق سياسى يقلل من المكاسب التى أدرجتها على الأجندة الأمر الذى يهدد الدولة ويجرفها إلى انتخابات برلمانية جديدة بعد انتخاب رئيس الدولة الجديد فى مايو القادم وهو ما سيكب الدولة أمالاً هى فى أشد الاحتياج إليها لمواجه المديونية التى تعانى منها. فضلاً عن اقتراب مارثون الانتخابات الرئاسية حيث سيبدأ مجلس النواب الإيطالى التصويت لاختيار رئيس خلفا لجورجيو نابوليتانو فى 18 أبريل القادم.
ويرجع أسباب الجمود السياسية إلى حداثة النخبة السياسية التى تقود حركة خمس نجوم والتى تضم مضيفة جوية وممثل كوميدى، وكهربائى وعاملة تليفوانات وربة منزل، وهم أعضاء فى البرلمان يجمعهم عنصر عدم الخبرة، ولعل شعبية الممثل الساخر قد ساعدت كثيراً فى صعود هذه النوعية إلى المنظومة السياسية لاسيما المطبخ التشريعى. ومن ناحية آخرى، يعتنق يمين الوسط سياسة "مكيافيللى" ويفرض سياسة حظر التجول الإيديولوجى بين حلفائه بينما يتمسك يسار الوسط بدقة اختيار الوسيلة حاسماً رؤيته القضايا التى تواجهه.
هل يمكن القوم من استخلاص الوضع السياسى فى إيطاليا أن سبب الأزمة الحقيقية بين القوى السياسية هى صعود المستجدون على الساحة السياسية وفقدانه للخبرة السياسية وقواعد الممارسة الديمقراطية لاسيما قواعد الحوار الديمقراطى، ففى تقديرى الشخصى لا يختلف كثيراً ما يحدث فى إيطاليا عما تشهده الساحة المصرية فى طبيعة العلاقة بين النظام والمعارضة وأجد أن العامل المشترك بين الحالتين هو حداثة النخبة وإصرار كل طرف على إجندته دون الإلتفاف للأوضاع الاقتصادية أو المصلحة العامة للدولة. قد يختلف معى البعض وقد يتفق البعض الآخر، ولكن هذه هى رؤيتى والله الموفق.