كانت هى المرة الأولى التى التقيت به.. أثناء سيرى بالشارع الساعة السادسة صباحا فور سطوع الشمس وسقوط أشعتها الدافئة على نسمات البرد القارس فى صباح يوم من أيام شهر شباط الباردة.. حقيقة فى هذا الصباح كان كل شىء مختلف.. كان الجو بالرغم من برودته الشديدة إلا أنه كان يحمل رائحة شتاء مليئا بالبهجة والسرور.. أحيانا يبعث صقيع البرد والشتاء بداخلنا شعورا بالفرحة والبهجة ولكنه أيضا يبعث فى دواخل الآخرين منا إحساسا بالضياع واللا شعور.. إحساسا بالألم الذى لن يشعر به سوى قلب حزين أو يد غير قادرة على احتساء جرعات دافئة من نهر الحياة.. أو إحساسا عميقا بالرغبة فى الموت.
فى هدوء صباحى فريد من نوعه جلست بجواره.. حيث كان يجلس بمفرده على رصيف الشارع الخالى نسبيا من المارة فوجدته ينهمر بكاء وقد بدأ يختفى وراء هذه الدموع رغبة فى الكلام أو حتى النظر لما هو حوله.
إنه أحمد البالغ من العمر خمس سنوات.. ولكن بعد ما جلست معه وتبادلنا الحديث بشكل منفرد تيقنت أنه على مشارف الخمسين.. سألته بحرارة ولهفة بعد سقوط هذا الكم الهائل من دموع عيناه الصغيرتين وبعض الكلمات الحزينة الصادرة من لسان لم يكمل نمو حروفه حتى الآن:
ليه بتعيط يا حبيبى؟
قاللى أنا عايز أموت..فكان الرد المباشر عليه..وليه عايز تموت ؟؟
فوجئت منه بالرد حيث قالى لى فى بكاء أجش "أنا عايز أموت عشان بردان أوى" ثم أكمل حديثة: وجعان أوى "!!
وبالرغم من أننى قريبة الدموع والضعف أمام الأطفال.. وبالرغم من نظرتى المتسرعة للعديد ممن هم حولى إلا أننى وجدت نفسى مبتسمتا وصامدة أمام هذا الملاك البرىء وقلت له فى بهجة "طيب ياللا قوم علشان نجيب أكل ونفطر مع بعض وكمان نجيب هدوم لأن الدنيا برد وأنا بردانة جدا".
صرخ فى وجهى وقد أوشك على الانهيار.. "لو سمحتى سبينى فى حالى.. أنا مش شحات قولتلك أنا عايز أموت".
وامتلكه الصمت المفاجئ بعد إلقاء هذه الكلمات مباشرة ثم استغرق فى نوم عميق دون أن يدرى فحملته معى فى سيارتى وقمت بحجز غرفة له فى أحد المستشفيات ومازال هو الآن حتى هذه اللحظة يرقد حيث تركته فى صمت تام.. فى حيرة من الأطباء النفسيين من حالته
أحاول مرارا وتكرارا أن أعيد له ما تبقى له من حياة ولكننى أعترف بالفشل فى هذا وأننى لم أستطع تجفيف دموعه أو إقناعه بالرجوع عما كان يريده.. ولا أعلم فى الحقيقة هل أنا التى أنقذته فى ذلك اليوم أم كان هو منقذى !!
حيث كان يموت كل يوم وهو على قيد الحياة.. يغترف الذل والإهانة طيلة الخمس سنوات الماضية من عمرة حيث بحثت ورائه وعرفت من أصدقائه فى نفس المكان أن لا أم له ولا أب ولا منزل.. إنه يعيش فى الشارع من يوم ميلاده ولكنه كان له شخصية مختلفة بعض الشىء على حسب قولهم.. كان يبكى يوميا وكان لا يرغب فى الأكل بالرغم من جوعه ولا يرغب فى النوم وكان دائما ينظر إلى النيل ويستمر فى البكاء لساعات طويلة.. لم يلق على قلبى من قبل مثل هذه الحالة من الحزن العميق كلما ذهبت إليه ونظرت إلى وجهه الصامت الحزين.. نسيت كل شىء وشعرت بصغر كل شىء من حولى وذهبت بعينيه الصغيرتين وجسمه النحيل إلى أبعد الأماكن لنلقى نظرة أنا وهو على الساسة المبجلين وملابسهم البراقة وعلى شاشات العرض الإعلامية والمحلات التجارية.. والمطاعم الفخمة والسيارات الفارهة..إلخ
لنصطدم بالحقيقة العارية ونعرف ما نريد من الدنيا مثلما عرف أحمد أنه "عايز يموت"
وعرفت أنا أننا كلنا لا نستحق الحياة بوجود دموعة فى الدنيا... "قصة حقيقية"
صورة أرشيفية
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد احمد دويدار
الله عليكى
قصة جميلة واسلوب رائع
عدد الردود 0
بواسطة:
ابو كريم
السادة الساسيون
عدد الردود 0
بواسطة:
mahmoud
راااائع
عدد الردود 0
بواسطة:
منى
انا كمان عايزة اموت
عدد الردود 0
بواسطة:
احمد المصري
صدقتي
عدد الردود 0
بواسطة:
ابراهيم محمد
ابكي على حالك