فى فترات المحن وفى زمن الأزمات تبحث الأمم والمجتمعات عن الحكماء الذين يمتلكون الرؤية التى تكون بدورها محددة للبوصلة ومن ثمّ للاتجاه الذى يجب أن تتجه إليه المسيرة أو السفينة وهذه الرؤية فى الحقيقة تستند إلى بصيرة قلما وجدت ولاسيما فى زمن المحن والأزمات. وفى هذا الإطار يجب أن يكون واضحاً أن الرؤية الصحيحة يجب أن تستند إلى قراءة دقيقة واعية منصفة للمشهد الآنى فلا يمكن للحكماء أن يتصوروا الحلول دون أن يكون لديهم تصور كامل لطبيعة الأزمة وجوانب الخلل وإسهاماً منى فى البحث عن دور لحكماء مصر الذين لم نعدمهم على طول تاريخنا فإننى أقدم فى هذه العجالة أهم ما أتصوره عناصر للخلل أو أسباباً جوهرية للأزمة الحالية والتى ترتكز فى نظرى على غياب أهم عناصر الرشد السياسى فى الحالة السياسية الراهنة. كنت أتمنى فى هذه الفترات المهمة من تاريخ مصر أن تكون كتاباتى حول كيفية استكمال أهداف الثورة المصرية العظيمة وكيفية استثمار هذا الإنجاز التاريخى لكنى لم أتصور ولم أكن أتمنى أبداً أن تكون أبحاثنا وجهودنا فى اتجاه إنقاذ الثورة من أنفسنا فنحن الآن ـ بكل ما تحمل الكلمة من معان ـ من يهدد مستقبل الثورة ومن يبدد حلم الأجيال، لأنه من الطبيعى أن تكون مسيرة الثورات مهددة من الثورات المضادة التى من الطبيعى أيضا أن يقوم عليها النظام القديم أما أن يتستر النظام القديم فى زى الثوار ويتحدث باسم الثورة ويقوم بالأدوار الرئيسية لاستكمال الثورة ويسعى لاستردادها ممن خطفها فهذا هو العجيب وهو ما يحمل أيضاً كل معانى الخطر، كما أنه من الطبيعى أن تكون الخصومة واضحة مع أعداء الثورة وأن تكون الخطورة على الثورات من خارج صفوف الثورة أما أن تكون الخصومة والخطورة من داخل الثورة ومن مفجريها الذين هم أحرص الناس على أن تنجح فهذا هو الخلل المبين والخطر المركزى.
ومن هنا يجب أن نؤكد على عدة مفاهيم أساسية يجب أن تحكم المشهد الحالى وتتحكم فى كل قواعد الخروج من هذه الأزمة الطاحنة: الأول.. أن هذه الثورة تعبر عن جهاد وتضحيات عدة أجيال وليس فقط الجيل الحالى الذى شهد اندلاع الثورة وتحمل مسؤولية تحويلها إلى نظام سياسى يعبر عن طموحات هذه الثورة العظيمة وينتصر للأجيال التى سحقها القهر والفقر كما يؤمن الأجيال التى لم تولد بعد، فليس من الأمانة أو الشهامة أو الوطنية أن نترك لهم نظاما يفعل بهم ما فعله بنا النظام السابق أو نعرضهم لتجريف الموارد والسطو على الإرادة بالشكل الذى جعلنا نجمع وبشكل لا إرادى على الخروج فى لحظة واحدة على هذا النظام البغيض.
ثانياً.. إن هذه الثورة لها أهداف محددة كانت بمثابة الأهداف الجامعة للشعب الثائر فى كل ميادين مصر فلقد كان لشعبنا مطالب محددة هى التى دفعته للتخلص من هذا النظام الفاسد فى مشهد تاريخى قل أن يجود الزمان بمثله.. وأن هذه المطالب قد عبرت بشكل واضح عن مصر بكل طوائفها ومكوناتها. وأن هذه المطالب لا يمكن أن تكون مطالب فصيل واحد أو تيار واحد مهما كانت قيمته ومهما كان تواجده فى الشارع ومهما كان نقاؤه ومثاليته كما أن هذه الثورة لم يقم بها فصيل واحد ولا يصلح أن يقوم بها فصيل واحد. ثالثاً.. أن التمكين للإرادة الشعبية هو أهم النتائج التى يجب أن نجمع عليها وأن نسعى إلى تفعيلها بعد هذه الثورة الشعبية العظيمة وأن إشراك الشعب فى تقرير مصيره وصياغة مستقبله أصبح من بديهيات الحياة السياسية الحالية ومن لوازمها بل ربما كانت المخرج الصحيح فى كل الأوقات مهما بدا لدى البعض أنه مخرج غير منطقى.
رابعاً.. أن استكمال الثورة كما هو واضح الآن فى ظل حالة الاحتقان التى وصلنا لها يتطلب قدراً من الاتفاق على ما يمكن أن يسمى قواعد استكمال الثورة المصرية والتى هى فى نظرى من مقتضيات استكمالها والتى يمكن أن تصاغ فيما يمكن أن نسميه «ميثاق الشرف الثورى» والذى يجب أن يشمل بين ما يشمل المحظورات والخطايا التى يجب على من يلتزم باستكمال الثورة المصرية ألا يقترب منها وأن يسعى دائما إلى التنزه عنها.
خامساً.. يجب أن يعلم هذا الجيل ولاسيما طبقته السياسية أن هذه الثورة لو أجهضت أو نجحت المؤامرات الموجهة إليها فإن الأجيال التالية لن تغفر لهذا الجيل إضاعته لأهم فرصة لتغيير وجه الحياة فى مصر بل المنطقة بأسرها وأنهم تصارعوا أو تنافسوا ـ حين وجب عليهم أن يتعاونوا وأن يتكاملوا ـ وكان صراعهم وتنافسهم على أرضية حسابات ضيقة ومصالح ذاتية لا ترتقى للحظة صدق واحدة من تلك اللحظات التاريخية التى عاشتها مصر كلها على مدى 18 يوما هى أهم أيام شهدتها مصر على طول تاريخها.