لا يمكننا أن نفهم ما تتمتع به الدولة الآن من سيادة ولا ما يقوم عليه المذهب القومى من نظم إلا إذا بحثنا أمر هؤلاء الحكام المستبدين. والحق أنه لم يفكر واحد من الفلاسفة السياسيين حينذاك فى حقوق الجماهير المحكومة ولا فى العلاقة بينها وبين حكامها. وأن الحاكم إذا كان كالشمس والناس من تحته يجب أن ينتفعوا بنوره كما ينتفع الناس بنور الشمس.
أما أمر الإنشاء والتعمير وأما أمر القبض والسجن والمحاكمة فقد كان كل ذلك من حق الحاكم. فالحاكم هو الذى كان يمثل السيادة فى الداخل وفى الخارج. وكذلك خرجت الممالك فى عصر النهضة وقد استكملت كل منها سيادتها . فلم يكن للجنس ولا الثقافة ولا للحدود الجغرافية ولا للعوامل الاقتصادية قيمة كبيرة فى خلق الوحدات السياسية . وإنما كان المثل الأعلى فى السياسة أن تقوم حكومة قوية تكاد لا تتصل برغبات الشعوب وإن كانت ترضى حاجات الشعوب. فأنت ترى أن سيادة الدولة التى بدأت فى النهضة تختلف عن سيادة الدولة التى ينطوى عليها المذهب القومى فى الوقت الحاضر. فسيادة الدولة فى عصر النهضة كانت تتمثل فى الحاكم وسيادة الدولة فى الوقت الحاضر تتمثل فى الأمة . وعلى الرغم من ذلك فقد كان للحكومات المستبدة ذات السيادة آثار ذريعة فى تاريخ القومية. ففكرة السيادة فى النهضة هى التى أتاحت لكل أمة أن تتخذ لنفسها طريقاً خاصاً فى تطورها ؛ وهى التى سمحت لكل دولة أن يكون لها قوانينها المطاعة وحكومتها القومية ، وهى التى وضعت حدا للحقوق المضطربة المرنة التى كان يدعيها الحكام ؛ ثم إنها خلفت لهذا العصر الحاضر حقوق الدولة فى إعلان الحرب وإبرام السلم . ماذا عسى أن يكون أثر الاستبداد فى الأخلاق السياسية ؟ نريد أن نبحث هذه النقطة بحثاً موجزاً لأنها فى الصميم من تفكيرنا السياسى ، ولأن للاستبداد أثراً عميقاً فى (أخلاقية) السياسة كما نريد أن نسميها ، ولأن هذا الاستبداد هو الذى خرج فى القرن العشرين كما يخرج الشيطان من جوف الأرض، فكان له نفس الأثر العميق فى الأخلاق السياسية التى تظهر بها دول الاستعمار فى العصر الحاضر حينما تواجه شعوباً صغيرة لها حقوقها السياسية . فأصبح من المسلم به أن للحاكم الحق فى أن يفعل ما يشاء. ولم يقف الحكام ليسترشدوا بآيات الوفاء بل لقد تحللوا من القوانين والقواعد التى يتقيد بها عامة الناس، والحق أن سلطان الاستبداد يفسد الخلق ويجعل الخلق السياسى نفسه شاذاً غير موثوق به.
وإذا بحثت فى فترة من عصور الاستبداد وجدت أن التنافس على الحكم والكفاح من أجل السلطة كان يحمل فى أطوائه عناصر القتل والذبح والإثم مما يقشعر له البدن . على أن هذا الخلق السياسى لم يقتصر على المستبدين . ولكنه انتقل إلى الدول المختلفة ذات السيادة . فأصبح من الأمور المسلم بها فى القانون الدولى أن الدول لا تكاد تتقيد بما تعهدت به إلا بعامل الخوف أو المصلحة. وقد رأت كل أمة حينما آلت إليها السيادة أن مصلحتها فوق مصالح الجميع وأنها تستطيع أن تخوض بحوراً من الدماء وأن على وزرائها والمتكلمين باسمها أن يكذبوا ويخونوا الأمانة وينكثوا العهود ويسفكوا الدماء إذا كان ذلك من أجل مصلحة (الوطن).
صورة أرشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة