"دعوها فإنها مأمورة".. قبل ما يزيد عن ألف وأربعمائة عام آثر النبى محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يترك للناقة حرية اختيار المكان الذى تبرك "تستقر" فيه، ليكون هو "قباء" أول مسجد فى الإسلام، مدفوعا بالوحى "الأمر" الإلهى، بعد مرور تلك السنوات وبنظرة عابرة على المساجد التى تبنى على أراض زراعية تم تبويرها بالمخالفة للقانون، وللشرع أيضا إذا ما خضعت لقاعدة الحديث الشريف: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيب".
بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، تعرضت مساحات واسعة من الأراضى الزراعية للانتهاك والتبوير، وأصبح الحصول على تراخيص البناء بالطرق الملتوية مصدرا للربح لدى الكثيرين، بعضهم بالتجارة فى الأراضى الزراعية، والآخر ساهم فى تقنين أوضاعها وثالث موظف بسيط اكتفى بالحصول على "الشاى" ليتغاضى عن المخالفة، فهو على يقين بأنها ستتم برضاه أو من دونه فهى عملية قديمة لم تستطع الحكومات المتعاقبة التصدى لها، حيث تشير الإحصاءات إلى أن 950 فدانا، إجمالى المساحات الزراعية تناقصت إلى 500 فدان خلال الـ 50 عاما الماضية.
وبجولة سريعة فى بعض القرى المترامية على أطراف الجيزة ستجد مساجد جديدة متناثرة يبدو من مظهرها الخارجى وكأنها بنيت بالأمس، بعضها غير مكتمل والآخر فى مرحلة التشطيب، يتداول الذين يمرون يوميا على الطريق الذى يربط تلك القرى مقولة متكررة مفادها أن "معالم هذا الطريق تتغير فجأة فمن الممكن تمر فى اليوم التالى لتجد منازل وعمارات ومساجد خرجت من العدم"، التفسير الوحيد لهذه الحالة كان من أول شخص قابلناه على الطريق: "قبل الثورة كان الناس يستغلون العطلات الرسمية الكبيرة ليبنوا ما يشاءون، الآن فى ظل الانفلات الأمنى لا أحد يستطيع أن يسأل شخصا ماذا يفعل حتى لو كان خطئا فى منتصف النهار".
فى قرية "أم خنان" على أطراف محافظة الجيزة، وأنت تسير على طريق الصعيد، ستحصى أكثر من ثلاثة مساجد جميعها مبنى على أراض زراعية، وهو ما فسره سالم أحمد السيد أحد أهالى القرية، قائلا: "الجميع هنا يتعدى على الأراضى الزراعية، ويقوم ببناء مسجد جوار المنزل ليضمن أن أحدا لن يعتدى على "قدسية" المسجد وحتى يتخلص من المساءلة القانونية، بعضهم يبدأ ببناء غرفه صغيرة ويقوم بتوصيل الخدمات لها من نور وكهرباء وصرف صحى، وبعدها بفترة تكتشف أن الحجرة الصغيرة تحولت إما لمنزل أو مسجد".
الحصول على الترخيص لمسجد مبنى على أرض زراعية بالمخالفة للقانون لا يختلف كثيرا عن ترخيص منزل مبنى بنفس الطريقة، حيث يؤكد محمد الخولى صاحب دكان لبيع المنسوجات القطنية أن "مسألة التراخيص أصبحت أمرا سهلا لا يحتاج سوى 200 جنيها يستطيع بها أى شخص استخراج كافة التصاريح التى يحتاجها للبناء، سواء أكان منزل أو مسجد"، مؤكدا أن نصف مساحة القرية "أم خنان" تحولت لمبانى فى 5 سنوات فقط.
سمسار العقارات بوصفه أكثر الناس دراية بأسعار الأراضى فى تلك المنطقة يعى جيدا القيمة المادية لتحويل قطعة الأرض من زراعية إلى مبان حتى لو اضطررت للتبرع بالدور الأول من المبنى كمصلى، فيقول محمود سعودى 70 عاما "سمسار": "المتر الآن يباع بثلاثة آلاف جنيه، والجميع يعرف أنه لابد من التحايل على القانون وضمان عدم الوقوع فى المشاكل، يلجأ لبناء مسجد وفى كل الحالات سيدفع الرشاوى المطلوبة لتمرير الأمر".
الحكومات المصرية على اختلاف تركيباتها على دراية بكل أشكال التحايل على القانون، حيث كشف تقرير حكومى أصدرته وزارتا الزراعة والتنمية المحلية عن وصول عدد حالات التعدى بالبناء على الأراضى الزراعية بعد ثورة 25 يناير بلغت 14 ألفاً و856 حالة تعد على الأراضى الزراعية منذ 25 يناير 2011 حتى 31 يناير 2012، حيث تم إزالة ألفين و171 حالة والباقى 12 ألفاً و685 حالة لم يتم إزالتها، بينما لن تجد إحصاء حكوميا دقيقا عن تصنيف تلك التعديات ساء كانت منازل أم مساجد".
وليست "أم خنان" هى القرية الوحدية التى تشهد تلك الظاهرة، فجميع من تيقنوا من الانفلات الأمنى وانشغال الدولة بالصراعات السياسية، لجئوا للبناء على الأراضى الزراعية ربما من أجل التجارة أو مضطرين لتحسين مكان المعيشة، وبعضهم فضل أن يفعل خيرا ببناء مسجد، معتقدا أن كونه بيت للعبادة سيشفع له مخالفته للقانون، حتى أن الأمر أصبح طبيعيا فى بعض الأنحاء، فلن تصدق أن المسجد الشهير الذى نٌقل إليه ضحايا قطار البدرشين الشهر الماضى بنىَ على أرض زراعية.
وزارة الأوقاف من جانبها تعتبر أن المعيار الأول لاعترافها بالمسجد هو "استيفاءه لجميع الأوراق الرسمية"، حيث يؤكد الدكتور عبده مقلد، رئيس القطاع الدينى بالوزارة الأوقاف قائلا: "من المفترض ألا يتم ضم أى مسجد إلا فى حالة استيفاءه جميع الأوراق الرسمية، خاصة عقد تخصيص من وزارة الزراعة بسماح بناء مسجد على الرقعة الزراعية، وأن تكون الملكية ثابتة، أما ما دون ذلك فلا يقبل الضم، مشددا على ضرورة توافر العديد من الشروط عند بناء أى مسجد أهمها أن تتواجد مسافة 500 متر بينه وبين أقرب مسجد.
الداعية الإسلامية الدكتورة آمنة نصير أستاذ العقيدة بجامعة الأزهر اعتبرت هذا الأمر "بعيدا تماما عن الدين الإسلامى الذى يحرم أن يوضع أى شىء فى غير نصابة الصحيح، فالأرض الزراعية خصصت للانتفاع العام وليس لاستغلال الأفراد، فقرى مصر ومحافظاتها بها مساجد لا حصر لها فالأمر لا يمت بصله لشح المساجد، ولكنه يتعلق بشح الأخلاق"، وأضافت: "فهذا انتهازية يرفضها الإسلام عندما تدخل فى إطار الفوضى والالتفاف على الضوابط القانونية".
"مساجد على أراض زراعية".. مواطنون يستخدمون بيوت الرحمن للتحايل على القانون.. التراخيص تحتاج لدفع 200 جنيها رشاوى.. والبناء بعد الثورة فى منتصف النهار دون رقيب
الثلاثاء، 05 مارس 2013 01:11 م
وزير الأوقاف طلعت عفيفى
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة