كعادتى كل يوم، أستيقظ مبكرا، أهرع إلى شرفتى، أنظر إلى صفحة السماء الصافية، أرقب مشرق الشمس، فأراها ملكة تزهو فى زينتها، ترتقى سلمها لتجلس على عرشها، أتسمع إلى الطيور المغردة وهى تسبح فى نور الشمس فرِحة مستبشرة. ألوح بنظراتى فى كل مكان.
وبينما أنا على ذلك، إذ بامرأة تسير فى نهر الطريق، تلقى نظراتها فى كل اتجاه، وما إن وَجَّهَتْ وجهها شطر شرفتى تصوب سهام نظراتها نحوها، إذا بى أحتجب متلافيا تلك النظرات حتى لا ترانى، فأستطيع مراقبتها.
تُرى من هذه المرأة؟ !
وما الذى أتى بها إلى هنا؟ !
ولم اختارت هذا الوقت المبكر من الصباح؟ !
رأيتها تتوجه نحو حانوت على مقربة من منزلى تخصص فى بيع الخضروات، لكنه ما زال مغلقـا، فنظـرت المرأة إليه بفرحة ممزوجة بشىء من الحزن. وجلست بجوار الحانوت واضعة رأسها إلى حائط مجاور له، فسبحت فى نوم حذر. حينها انتفض فكرى متعجبا من أمر هذه المرأة، مصرا على كشف ما تخفيه من أسرار.
وبعد وقت لم يكن بالقصير جاء صاحب الحانوت، وتوجه إلى باب الحانوت يفتحه، فإذا بالمرأة تنتفض انتفاضة الذعر، فتنهض مبتعدة عن الحانوت خطوات معدودات، يشخص بصرها نحو صاحب الحانوت الذى شرع يقلب بضاعته، مميزا الصالح من الطالح فيها، يلقى ما فسد منها فى صندوق. ولما فرغ الرجل من ذلك نحى الصندوق جانبا ؛ تمهيدا ليلقى مصيره المحتوم، ومثواه الأخير فى مقبرة القمامة.
عندها أشـرقت أسارير المرأة، واندفعت نحــو الصندوق اندفاع سجين أُعلــن عن إطــلاق صراحــه، فحملت من ذلك الصندوق – الكنز – ما حملت فى كيس أراها قد أعدته لذلك، ثم انطلقت خفيفة مرحة.
دفعنى فضولى إلى اقتفاء أثرها، فإذا بى أهرع إلى الشارع باحثا عن تلك المرأة، حتى رأيتها فوق بساط من السعادة، تسوقه رياح الفرحة، فتتبعتها غير مكترث بما يمر فى الطريق من سيارات كادت تدهمنى إحداها.
منزل بسيط، تقطن هذه المرأة فى طابقه السفلى تحت مستوى الأرض، تطفو به نافذة صغيرة تطل هى وصغارها من خلاله على العالم الخارجى، فأول ما يرونه فى ذلك العالم هى تلك الأقدام التى تظهر أول ما تظهر لهم من الأشخاص، وأول ما ينمو إلى سمعهم وقعها المؤلم.
استرقت النظر من خلال تلك النافذة، فرأيت صغارا خمسة، يرتدون أردية الخوف والقلق، يتبادلون نظرات العجز واليأس، يحدقون بتلك النظرات البائسة فى موقد صغير منطفئ، لا يكاد يتسع إلا لحمل قِدر ضئيل، لا يكفى إنتاجه سد جوع واحد منهم.
لم يتخل عنى فضولى، فانتظرت حتى رأيت المرأة تدخل على أطفالها، فيستقبلونها استقبال صغار الطيور لأمهم العائدة بما جاد به الزمان عليها. لقد أخرجت ما كان فى كيسها تعده للطهى، فتحلق الصغار حول ذلك الموقد، منتظرين بلهفة ولادة مولوده يُدعى (الطعام).
سعادة ما بعدها سعادة، لقد وضع القدر وليده، فاستقبله الصغار بفرحة بعد شوق شديد، أقبلوا عليه يلتهمونه التهاما، كأنهم أُسد جائعة تنقض على فريستها. أما الأم فتضع فى فمها لقيمات معدودات لا أظن أنها تشبع هرة صغيرة، لكنها وضعت فى عينيها سعادة لو حُولت إلى طعام لأشبعت وطنا بأسره.
وما هى إلا دقائق حتى توجهت الأم نحو نافذتها تسدل ستار هذه القصة التى حملت بين طياتها معان تعجز حروف اللغة عن وصفها.
