لقد أحسست بألم شديد، وإحساس قاس عندما قرأت هذا الخبر: "شاب عاق يهشم رأس والدته بقطعة حجر".
وللأسف الشديد أصبح هذا الخبر يتكرر كثيرا فى إعلامنا، وهذا يمثل أقصى
درجات الجحود والعقوف التى تصل إلى القتل.
لقد صفعت سياط هذا الخبر نياط قلبى، وذكرتنى بأمى رحمها الله التى ماتت
يوم الثلاثاء 25-12-1985م.
نكأت الحادثة جرحا ً قديما ً ظننته اندمل، فقد ذكرتنى بالرحمة التى
فقدتها بموت أمى، والطمأنينة التى ضاعت بوفاتها.
أمى كم مرت على أيام وليال تمنيت لو كانت بجانبى، كم تعرضت لمواقف كنت
فى أشد الحاجة لحضنها الدافئ، لألقى بهمومى وآلامى بين ضلوعها.
أيفعل عاقل فى أمه هذا؟
كيف لإنسان بل لكائن أن يرفع صوته فوق صوت أمه، بل من يتجاسر ليحدق
النظر فى وجه أمه، من يطاوعه قلبه ليقطب جبينه فى وجه أمه؟.
كيف ينهى الله عن مجرد (أف)، ونجد من يسب والديه، بل ومن يضرب أمه وأباه.
فهل وصلت القسوة إلى حد القتل؟،
أى قلب هذا هل من حجر؟،
هل هو من جنس الناس؟،
هل هو من الكائنات الحية؟،
هل يعرف قيمة النعمة التى قتلها بيده؟.
الأم باب الرحمة.. كم تعبت لنرتاح، كم سهرت لننام، وكم جاعت لنطعم، كم
ظمئت لنروى، كم ضحت بعمرها وصحتها ليعيش الواحد فينا هانئا ًسعيدا ً
مطمئناً؟.
أتذكر أمى يوم ماتت وكان يوما شاتيا، ما توقفت السماء عن الهطل،
وكأن السماء اختزنت دموعها لتذرفها يوم فراق أمى للحياة.
كم عانت أمى من الربو ومن آلام الصدر، وكان الشتاء إذا دخل عليها لا يهنأ
لها نوم، ولا يغمض لها جفن، كان السعال والكحة تكاد تخرج روحها من شدتها.
كانت رحمها الله وكأن الطيبة قد جمعت فى قلبها هينة لينة سليمة القلب..
صابرة على مرضها وآلامها وراضية سعيدة برغم شظف العيش وقسوة الحياة.
أقدم أمى نموذجا ً لزوجاتنا وأخواتنا اللائى توفر لهن كل شىء من زينة
الحياة الدنيا، ومع ذلك انتشر الطلاق والشقاق وأصبحت المحاكم فى حرج
شديد من كثرة القضايا الزوجية، وخاصة بين شباب المتزوجين.
كانت أمى تدير البيت بلا مقومات حقيقية، وكان من نوادرها التى كنت أحكى
لإخوانى عنها فى أيام الجوع فى المعتقلات قصة الديوك، كان اللحم نادرا
ًوجوده، فإذا ما أكرمنا الله بدجاجة أصيبت بحجر طائش أو مقصود من أحدنا.
وكتب الله لها حسن الخاتمة فى بيتنا، وقامت أمى بطبخها، فبدلا أن تشعر
بالوحدة القاتلة فى الوعاء الكبير تضع معها كثيرا من البصل، وكانت
تسميه ونسميه ديوكا، فإذا ما طلب أحدنا- وكنا خمسة أبناء ثلاث بنات
وولدين – شيئا من هذه الدجاجة الشهيدة عللتنا أمى بديك من ديوكها – البصل
– حتى يأتى أبى رحمه الله فى المساء، لنجلس جميعا على الطبلية، ونتناول
عشاءنا سويا، وكان أبى رحمه الله يؤثرنا بجزء كبير من نصيبه.
أما أمى فكانت لا تأكل إلا جناحا، وتطعمنا وهى التى تكابد الأمرين
طوال اليوم فى البيت والحقل.
أمثل هذه تشتم أو تضرب، فضلاً عن أن تقتل؟
يا من لا تعرف قيمة أمك انظر إلى أمهات المعتقلين حين كانت تأتى الأم
المسنة الواهنة المريضة من أسوان إلى سجن الحضرة، أو دمنهور تحمل على
رأسها الزيارة تتعثر فى مشيتها لا تجد من يأخذ بيدها، يتطاول عليها
السفهاء من السجانين، بل ربما تسب فى عرضها وتلطم على وجهها من أجل
ولدها، بل من أجلنا جميعا ً.
واسمع بقلبك أيها العاق لوالديك هذه القصة الواقعية جاءت أم لزيارة ولدها
فى سجن الوادى الجديد، وكان من أبشع السجون فى كل شىء، وكان السجانون "قبح
الله الظلمة" يأمرون المعتقلين بالجلوس على الأرض بعد انتهاء الزيارة
والتى لا تستغرق دقيقة أو ثلاثا على الأكثر، فظنت إحدى الأمهات أن
الأرض قد ابتلعت ولدها، فما تحمل قلبها ووقعت ميتة فى الحال.
أفمثل هذه تهان أو تقتل؟
فيا أيها المتشدقون بجعل يوم للأم تتخذونه عيدا.
الأم فى ديننا أعظم من ترهاتكم المبتدعة، فالبر عندنا دائم ومستمر لا
ينقطع ولا يتوقف.
الإسلام غنى عما ابتدعه الآخرون سواء عيد الأم أو غيره، وفى تشريعاته
من البر بالأمهات ما يغنى عن عيد الأم المبتدع،
فبر الوالدين مستمر مع النفس لا يتوقف إلا بتوقف الحياة، بل يظل حبل البر
ممدودا من الأبناء تجاه الآباء حتى بعد الموت،
الحديث عن الأم حديثا ذو شجون لا يمل القلب منه أبدا، فاللهم ارحم
أمهاتنا وآباءنا وارزقنا برهم أحياء وأمواتا.
صورة أرشيفية
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
الحسن
كلام محترم
جعله الله في ميزان حسناتك