وجدان العلى

محمد يسري سلامة وكنز الخفاء!

الإثنين، 25 مارس 2013 09:02 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تغرَّبَ -لا مستعظمًا غير ربه-
ولا قابلاً إلا لخالقِه حُكْمَا!
..
هكذا كان العالم الثائر المجاهد محمد يسري سلامة..
وقد خالفتُ أبا الطيب في رواية هذا البيتِ عمدًا؛ لأنَّ هذا العَلَم الذي أحاول الحديث عنه-بإيجاز شديد- قد فرغ من رؤية نفسه، فلا يبالي بمدح المادح وقدح القادح، طالما سار في طريقه التي عزم عليها، ورأى أنها السبيل!
ما الذي هنالك في خبيئة ذلك الصدرِ الذي يحوي ثورة هائلة على الظلم والاستبداد، ومسكنةً طفوليةً لا تفارق تلك الزاويةَ النابضة التي نسميها القلب؟
ما الذي وَلَج بهذه النفس إلى ذلك الملكوت الذي تنادَتْ فيه القلوب جميعًا بالحسرة واللوعة المتلظية بالألم وغمغمة البكاء يوم رحيله؟
نشيج الفقد الذي يأبى أن يكون عابرًا، فيستبد بكيانك كله، ولا يقنع بدمعةٍ هاربةٍ متبوعةٍ بالنسيان والسلوان!
بل هو نشيجٌ عارمٌ متوهجٌ متنامٍ، يخترق صدرك ويصعد به إلى سقف البكاء المكسور، أنت الذي لم تعاشره، ولم تجلس إليه، وأكثر ما تسمع عنه كان عليه لا له..!
ذلك النشيج الذي يأتي بالقلم الذي خاض فيه وطعن؛ ليكسره وصاحبَه معًا بمعاول الحزن التي تجعل كل ما فيك يقول: لا..لم يكن كما يقولون.. لم يكن كما أظن!
ما الذي ملَكَه ليُخرج هذه الحشودَ المتباينةَ من الشباب والشيوخ من خلافاتها وذواتها وأماكنها البعيدة وقلوبها النائية؛ لتشهد صلاة الجنازة عليه، وتقف في ساحة الوداع ما بين البكاء والدعاء؟
بكاءٌ متوالِدٌ من أعين كثيرة، ولكنَّ له سمتًا واحدًا يجده كلٌّ منا في نفسه فيقول: والله ما بكيت في حياتي على أحد مثل هذا البكاء، لاشيخًا ولا أبًا ولا أمًّا ولا صديقًا ولا أخًا..مع أني لا أعرفه!
هذا الغريب المرتحل ترك في القلوب أنينًا لا ينتهي..بماذا؟!
أيُّ خبيئةٍ قد اختبأها هذا الذي طغى المرض بجسده حتى لم يبقَ منه إلا شخص نحيفٌ ماتت فيه الدنيا، وتخفف لاستقبال الآخرة؟!
يتضرَّم الحرف في حقِّه سبًّا وشتمًا، فيُعرِض، ويُقال فيه ما يُقال، فيكتب: "أحيانا يكتب شخصٌ ما شيئا عني، وغالبًا يكون شيئًا سيئًا، فيكون أول ما أفكر فيه هو الرد، وتتبادر عندئذ إلى ذهني ردود جميلة وكأنها الشعر، قادرة على الإلجام والإفحام، ولكني أعود فأقول: الانشغال بالتفكير في صورتك ومحاولة تبرئتها من أي شيء يُلصق بها هو في حد ذاته دليل مرض، وهو أحد أسباب التردي والتراجع الذي تمر به أمتنا: الشغف الزائد بالذات، والحرص على الصورة الشخصية.
أظن أن الأعمال هي التي تتحدث عن صاحبها في نهاية الأمر؛ حسنة كانت أم سيئة، وما سوى ذلك لا طائل من ورائه"!
لاحِظ هذه العبارة جيدًا: وغالبًا يكون شيئًا سيئًا!
هذا الفراغ من رؤية الذات، "وصنمية الأنا"، والإعراض "النبيل" عن دفع قَالةِ السوء، مع القدرة على الرد والإفحام، لا يتهيأ إلا لذوي النفوس الكبيرةِ التي علمت حقارة هذه الدنيا، وحقارةَ الانشغال بها!
ولذا كان رجلاً نبيلاً بذولاً، يعين إخوانه بشهامته، ويبذل لهم من وقته وعلمه وصحته وما يملك بسماحةٍ وطِيب نفس.
وكان محبًّا للعلم، مفتونًا بالبحث، فريدًا في بابه: تحصيلاً وتبحرًا واطلاعًا وجمعًا للمخطوطات وتحقيقًا للتراث كساه بهاء العلم وجلالة المنزلة عند القاصي والداني.
..صادعًا بالحق الذي يعتقدُ، لا يبالي ما أصابه فيه، منذ كان صغيرًا وسمع بضرب العراق فكَسَا سيارته ملصقاتٍ تعادي العدوان على العراق وذهب بها إلى بوابة القنصلية البريطانية، يصرخ أمامهم بصوته الجريء وغضبه العاصف، حتى ذهابه مجاهدًا في العراق وفقده لبعض أصابعه، واعتقاله في باكستان، وتعذيبه في أقبية أمن الدولة بمصر، ثم خروجه في الثورة ضد الطغيان، لا يبالي في هذا كله بما أصابه، ولا يتفاخر بما أصابه!
ذلك العالم المتقن الحر، تأتيه الكلمة من مجهولٍ فتُذَكِّرُه بالله، فيسكُن، وتنصحه ولو بعنفٍ فيخضع، وتناديه بـ" اتق الله"، فينزوي خاليًا وفي عينيه بكاءٌ أسيف، ويكتب له من يقول: اشتقنا إلى تحقيقاتك وبحوثك الجليلة، فيقول: ذبحتني يا أخي والله بغير سكين!
وأعرفه فأحدثه، وأتواصل معه، ويرد بالرفق والحب، وأسأله اللقاء فيرحب، ويتأخر اللقاء مرةً ومرةً، فيكتب لي معتذرًا: هلَّا عفوت عن أخيك!
حتى كان لقائي الأول والأخير الذي رأيت فيه شيخنا وأستاذنا، وقد براه الألم ونحته المرض، فدخلت عليه وقبَّلتُ جبينَه..فيستقبلني بدمعةٍ أعلم الآن سببها!
وأطيِّبُ خاطره، قائلاً: مَن يُرِدِ الله به خيرًا يُصب منه، فيبكي، ويقول بصوتٍ واهٍ: الحمد لله..الحمد لله..فأقول له: أنت يا أستاذنا تعلم أن نبينا كان يُوعَك-أي يمرض- كما يُوعَكُ الرجلان من أمته، فيقول بلهجة الرضا: نعم نعم..
وأخرج له -لأشغله عن تعبه- صورًا نادرةً للعلامة الذي يحبه حبا عظيما وهو شيخنا محمود محمد شاكر، فينظر إليها فرحا مبتسما، ويسكن..فأقول له: حبيبك..
فيرد علي: ومين اللي مايحبوش؟!
فأقول له: كم سمعت من ثناء شيخنا الدكتور المقدم على حضرتك، وحبه لك، فيقول لي: المحبة بيننا متبادلة.
فقلت له: كلها أيام تمر، وآتي لحضرتك لأدرس عليك العلم، فيرد ببراءة: ياللا..فأقول له: هذا وعد؟ يقول لي: نعم.
وتكلمت معه بإيجازٍ عن بعض الأسماء، وتعرضنا لبعض الكتب؛ فهو يحب العلم حبًّا ملك عليه قلبه، حتى إن كتاب الإبانة لابن بطة في الاعتقاد كان عن يساره في سرير المرض.
قمت، وبي رغبةٌ في الجلوس، خشيةَ الإثقال عليه، فقبَّلت يده التي جاهدت، وجبينه، فبكى مرةً ثالثةً، وقبض على يدي طويلا قبل انصرافي" علمت الآن لماذا!" وأنا أنظر إليه مُؤَمِّلاً أن آتيه صباح اليوم التالي..
وجاء الصباح، وأتيته لا لأعوده، بل لأحمل حطب الحزن في فِجاج الجمر، وأبكيه حبيبًا كان لقائي به وداعًا له!
وأبكيه شيخًا عالمًا كنت أؤمل أن أدرسَ عليه وأنهل من علمه الفريد!
وأبكيه صابرًا احتمل تابوت أحزانه في صمت، وناله ما ناله من عقوق وجفاء!
وأبكيه ميتًا أمات الخصومات ونزعات التصفية الخلقية في قلوب الكثيرين!
وأبكيه ثائرًا ضد الطغيان الذي يستبد بالناس، والطغيان الخفيِّ الذي يصبغ قلوبًا كثيرةً بالكبر الكاذب الذي يجعلها تظن نفسها الأفضل والأقرب لله!
وأبكيه أخًا نبيلًا شهمًا كنتُ أعتَدُّه لسفر الحياة وشَعَثِها!
وأبكيه راحلًا يحمل معه " كنز الخفاء"، الذي كسا وجهه ابتسامةً مضيئةً على خشبة الغسل!
رحمة الله عليك يا أستاذنا، ومغفرته ، وعفوه وإحسانه!
مُقيمٌ إلى أن يبعث الله خلْقَه||
لِقاؤُكَ لا يُرْجَى..وأنتَ قريبُ!
تزيدُ بِلًى في كلِّ يومٍ وليلةٍ||
وتُنسَى كما تَبْلَى..وأنتَ حبيبُ!!






مشاركة




التعليقات 10

عدد الردود 0

بواسطة:

الشعراوى

رحمة الله عليك يادكتور محمد يسرى

أسـأل الله تعالى ان يغفر له وان يتجاوز عن سيئاته

عدد الردود 0

بواسطة:

أسامة

رحمه الله واسكنه الجنة

عدد الردود 0

بواسطة:

أحمد ياسين

رحمه الله رحمة واسعة

عدد الردود 0

بواسطة:

محمد الطيبي

وداعا محمد يسري سلامه

يارب اغفر له و ألحقنا به في الصالحين

عدد الردود 0

بواسطة:

عمرو

مقال كتب بعاطفة جياشة لا تخطئها القلوب

عدد الردود 0

بواسطة:

د. سامية أبو سمره

يكفى الدعاء لهذا الميت وامواتنا جميعا

عدد الردود 0

بواسطة:

s

الله يرحمه و يرحم جميع موتى المسلمين

فوق

عدد الردود 0

بواسطة:

مواطن

رحمه الله رحمة واسعة وأنزله منازل الصديقين والشهداء

شكرا للكاتب الكبير والفيلسوف العظيم ..

عدد الردود 0

بواسطة:

AH

رحم الله الشيخ الثائر

عدد الردود 0

بواسطة:

مدنى

إن كان حظي فى الحياة قليلها فالصبر يا مولاي فيه رضاكَ

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة