قال "تشرشل" يوماً "تأتى المشكلة من تراكم الهفوات".
صاح الناس هنا وهناك وقام الخلق مبتهجين منزعجين وراحت الشرطة كراً وفراً وأضيئت زجاجات "المولوتوف" أرضاً وجواً، وأشعل التلفاز مؤيداً ومندداً، وخرجت الجماهير العريضة مؤيدة ومعارضة ودب القلق فى النفوس صباحاً ومساءً وخرج الصالح والطالح كلٌ معبر عن رأى مستوحياً إياه من مصالحه وأحواله الاقتصادية والاجتماعية.
هذه هى التناقضات العديدة التى استوعبتها الثورة فى الخامس والعشرين من يناير بربوع مصر.
قامت ثورة الخامس والعشرين من يناير وأطلق عليها الكثير من النعوت لوصف خلوها من القيادة فى إيحاء لإيجابية هذا الخلو فوصفت بالربَّانية والشيطانية وغيرها من الصفات فى إيحاء بأن الشعب هو القائد لها لكن ذلك أدى الى تناثر مقدرات الشعب على أيدى الساسة والطامحين.
السؤال هنا لو تعهد مبارك بتغيير الأحوال على هوى مؤسسى الثورة من الشباب هل كان يزداد سقف المطالب إلى خلع الرئيس؟؟؟!!! بالقطع "لا" لأن الثورة هى وسيلة وليس هدف فى حد ذاته، فإذا تحقق هدفها بالطرق القانونية الدستورية والسلمية ما كان لها من وجود، لكن تم تحويلها إلى هدف من أجل إشباع الحلاقم المتعطشة للمناصب والحكم.
هذه هى التناقضات العديدة التى استوعبتها الثورة فى الخامس والعشرين من يناير بربوع مصر.
مع وجود كل هذه التوجهات وكل هذا الزخم من التناقضات عكست الثورة أخطاءها وفضح الثوار عن هفواتهم التى أسست لكل تلك الفوضى العارمة بالشارع المصرى.
وتتمثل تلك الخطايا والهفوات فى الآتى:
1. انعدام القيادة الثورية التى تقوم بتوعية الجماهير بماهية الثورة والأهداف من ورائها وحشد القوى خلفها. فعلى مر الثورات لم نجد ثورة إلا والظروف الصعبة للمجتمع هى نقطة الانطلاق لحشد الجماهير وتحميسهم ربما رغبة منهم فى تغيير المجتمع الذين نشأوا فيه وإفشاء المساواة بين الناس، بما طمعاً من قيادات تلك الثورات فى اعتلاء المناصب التى حرموا منها بالطرق السلمية وغالباً ايضا ما نجد طموحات المناصب تحتضن الرغبة فى التجديد للأفضل كما نرى بعض القيادات الثورية. فعندما تحشد الجماهير اقتناعاً بأفكار الثوار أو القادة نجد هناك تسليم وإيمان راسخ من الناس فى صدق أفعال القيادة الثورية ونجد القليلين من المعارضين وربما ثورة 52 بمصر هى اقرب مثال لذلك.
2. لم يكن للثورة قيادة وبالتالى لم يكن هناك منهاج ثورى فيوجد لها دوافع ولا يوجد أهداف لها فكان لكل فصيل من الفصائل السياسية مطالبه، مضيفاً إليها بعض المطالب التى تخدم المواطن لكن لم يكن هدفها الأول هو خدمة المواطن والوطن لكن هدفها هو تأسيس كيان سياسى لها؛ أما المطالب الفئوية فما هى إلا رشوة للمواطن كى يتقبل ذلك الحزب كجزء من النسيج السياسى الذى يخطط لمصير البلد.
والسؤال هو ما هو منهاج ثورة 25 يناير وخطوطه العريضة حتى يتسنى لأى قيادة تأتى باسم الثورة ان تجعله دستورها وطريقها فى سياساتها والعمل على تنفيذها ؟؟!!.
3. مطالب الثورة (عيش، حرية ،عدالة اجتماعية) هى نفسها المطالب منذ 42 عاماً (ثورة 1952)، هذا يعكس افتقار ثورة يناير لأى نوع من التجديد وربما يفرغها من مفهوم الثورة، فالثورة هى تغيير اجتماعى كما هو سياسى. هذا يعكس انه لا يوجد من الاحزاب والجماعات والجبهات التى أشعلت الثورة من هو "فاضِ" ليصيغ مبادئ الثورة صياغة تقدمية تبرهن على ما حدث من تقدم فى الفترة ما بين الثورتين وربما هذا لا يعكس فشل ثورة 25 يناير فى تبنى مبادئ قوية هادفة بل يعكس فشل ثورة 52 التى لم تحقق ثلاثة من أهم مبادئها على طول 42 سنة وأن ثورة 25 يناير هى محاولة لتصحيح المسار لا غير.
4. تدنى سقف المطالب وبخوث الثورة بمبادئها: فهل العيش والحرية والعدالة الاجتماعية هو ما ترمز إليه الإنسانية، فماذا عن الأخلاق فكلنا كنا فى انتظار ثورة أخلاق وثورة انفتاح اقتصادى "محترم" وليس انفتاح " بطون لتلتهم (العيش) التهاما وثورة انحلال تحت رمز (الحرية) التى ستحققها الثورة وانفتاح توزيع الوظائف والمناصب تحت شعار (العدالة الاجتماعية)، فأين الأخلاق وسط كل هذا الزخم من المطالب الهاوية؟؟!!!!!!
5. لم يتم محاكمة مبارك محاكمة ثورية كونه من ثار عليه شعبه أو محاكمة عسكرية كونه رجل عسكرى خان الوطن وفتك بشعبه. حتى لا نجد تلك الثورة المضادة التى يشحنها رجاله من أجل إنقاذه من الوحل. فلو تم محاكمته فلم يكن هناك مبارك ليدافع عنه أحد مفتعلا مشاكل وفوضى فى الشارع فنسبة هائلة مما يحدث اليوم من فوضى ما بعد الثورة كانت نتيجة عن ذلك وننظر إلى الثورة الفرنسية كمثال عندما أعدموا الملك وعائلته بعد اكتشاف تمويلهم لمحدثى شغب فى البلاد بعد الثورة بثلاث أعوام.
6. كما أيضا خروج الجيش من "ساحة الأمن" مبكرا كان له أسوأ العواقب، فكالمعتاد لا يوحد تناسق وتناغم وروح تعاون على مستوى مقبول بين الشرطة والمواطنين لما تمثله الشرطة من سلطة وقانون على المواطن، كما أن التصدع الحاد لهيبة الشرطة تسببت فى انفلات زمام الأمور وأصبح العنف والجريمة والبلطجة (وأنا رئيس جمهورية نفسي) هم القانون الذى يسير عليه الكثيرون. أما الجيش يعتبر بما يمثله من قوة وهيبة لم تخدش بعد الحل الفريد فى فترة ما بعد الثورة حتى الآن وبعد مرور قرابة 9 شهور على تنصيب رئيس للبلاد. لكن يجب تسليحه بالضبطية القضائية ليكون عمله على وجه كاف من الفاعلية. فالشرطة تأخذ كثيراً من الحذر فى التعامل مع مشكلة الأمن فى الشارع خيفة التباس الأمور على رجال الإعلام الذين يحاولون تشويه جهاز الشرطة بشكل أو بآخر واتهامه بالعنف تارة وبالتسيب والتواطؤ تارة أخري.
7. حققت الثورة خسارات فادحة منذ اندلاعها؛ ولم تكن هذه الخسارات فقط بشرية -ما بين شهداء سقطوا وقتلى وجرحي-(فهذا مسلم به فى الثورات) لكن أيضا مشكلات فى البنى التحتية وهذه الخسائر لم تكن بسبب الإضرار المباشر عن طريق الهدم والحرق لكن أيضا بشكله غير المباشر عن طريق وقف العديد من المصانع والشركات لعدم استقرار الامور وانهيار البورصة وتحقيقها خسائر فادحة وفاضحة ووقف السياحة الخارجية والداخلية. وذلك على الرغم من ان الثورة- المفروض- تكسب فى يومين ما يكسب فى مائة عام لكنها للأسف- بسبب انعدام القيادة التى تبادر بالسيطرة على البنى التحتية وقت اندلاع الثورة لتسير الأمور بشكلها الطبيعى تفاديا لأى نوع من التخريب بنوعيه سالفى الذكر- خسرت فى يومين ما يمكن خسارته فى مائة عام.
8. الاستعجال على جنى ثمار الثورة بطرق لافتة للنظر وغير مباركة: ففور إعلان الرئيس المخلوع مبارك تنازله عن الحكم تأهب الجميع ليقضم قضمته فهناك من اضرب لزيادة المرتبات وهناك من أعلن العصيان لصرف المستحقات وهناك من أشعل النيران احتجاجاً على البطالة وهناك من قام بالاستيلاء على مبانى سكنية لم يتم تسليمها بعد؛ كل ذلك بحجة قيام الثورة. فالثورة ليست هى برنامج على الحاسوب او فانوس سحري. كما انعدام خطوات محدده ووجود غموض فى برنامج حكومات بعد الثورة لا أحد يعرف إن كانت مطالبه قيد التنفيذ أو حتى إن كانت بالفعل فى حسبان الحكومة أم لا ساهم كثيراً فى افتعال الأزمة.
9. سوء فهم مفهوم " المعارضة" فما زال الكثيرون – ممن تربوا على قمع النظام السابق- يعتقدون أن المعارضة هى جماعة القتال من أجل الحكم لم يصلوا أبداً إلى عمق هذا المفهوم، فما زال المعارضون يعتقدون المعارضة هى الحرق والدمار والمظاهرات واشعال المولوتوف والرشق بالحجارة لم يفهموا بعد أنها البرنامج البديل لبرنامج الحكومة بما يحوى من خطوط عريضة لمصلحة المواطن وذلك هو السلاح الوحيد والطريق الطاهر للوصول الى الحكم وإلى قلب المواطن البسيط.
10. الاستشهاد ما بين الجهل والجهاد:
فتلاحقت الأحداث منذ اليوم الأول للثورة وسقط من سقط من القتلى وتم إدراج من قتلوا فى هذه الأثناء وبشكل معين وفى مكان معين ضمن لاحة الشهداء، لكن ذلك جعل كل من يموت فى ظروف مشابهة رغم اختلاف السبب شهيداً أيضا وكأن شهداء مصر لهم "عنبر" خاص فى الجنة. وذلك يذكرنا كثيرا بالفنان" احمد آدم" فى فيلم (معلش احنا بنتبهدل) عندما كان يعتبر اقربائه الذين ماتوا فى أعوام الحروب التى شهدتها مصر شهداء لأجل كسب ود وعطف الحكومة الممثلة فى جهاز الأمن.
ساهم ذلك فى تصعيد عمليات العنف بمبرر أنه عملية جهاد وأن القتيل سيكون شهيداً والجريح بطلاً أو ناشطاً سياسياً على الرغم من اننا نغفل الأبطال والشهداء الحقيقيون وهم رجال الشرطة الذين ماتوا وهم مؤديون لعملهم كما طلب منهم سواء هذا العمل مبارك من باقى الأطراف أم لا. فأى عمل يؤديه ذلك الحارق والرشَّاق ليستشهد من أجله؟؟!!!!
هذه هى الهفوات العشر التى أدت الى ما نحن فيه وما نحن عليه مما تستحى العين الطاهرة أن تراه بعدما رأت من كبرياء وعظمة وإنسانية هذا الشعب أثناء الثورة ما رأت، فأشيروا بأصابع الاتهام إلى الثوار والى الحكومة والى المعارضة فكلنا مخطئون.
