«يستيقظون فى الخامسة فجرا، يبدأون فى جمع ثيابهم بحركات سريعة، تهرول أمهاتهم لإعداد وجبات إفطارهم، يخرجون فى الشارع ويصيحون على بعضهم البعض، بينما تنتظر بعيدا السيارات النصف نقل التى ستنقلهم إلى مكان آخر بحثا عن لقمة العيش، فيذهب الجميع وتبقى شفاه الأمهات والآباء تهمس وتدعو الله أن يعيد لهم أطفالهم أحياء دون شر أو أذى، تختفى السيارات عن الأنظار تدريجيا وهى محملة بما يزيد على 50 طفلا وتتجه من محافظة المنوفية إلى الجيزة وتحديدا فى قرية أبوغالب بمركز إمبابة التابع لمحافظة الجيزة، لتبدأ مرحلة توزيعهم على المزارع المختلفة بالمناطق الجبلية وفور انتهائهم تأتى السيارات مرة أخرى فى الثانية ظهرا لتعود بهم إلى محل سكنهم».
هذا هو المشهد الذى يتكرر يوميا مع أطفال قرية طليا فى مركز أشمون بمحافظة المنوفية والذى أجبرت الحاجة المادية غالبيتهم لترك مدارسهم وأحلامهم البسيطة وراءهم والذهاب لخوض تجارب أخرى قد تودى بحياتهم أحيانا، ولكنها فى النهاية ستساعدهم فى الإنفاق على أسرهم التى تجاوز عددها خمسة أفراد، «اليوم السابع» خاضت رحلة الموت معهم بداية من المعديات التى تنقل سياراتهم فى رحلة الذهاب والعودة وصولا إلى المناطق الجبلية المكلفين بزراعتها، ورصدت لحظات القلق والرعب التى تنتابهم عندما يتذكر أحدهم المشهد الأخير لصديقتهم التى ماتت غرقا أو تراود أى منهم صورة «مقاول الأنفار» وهو يجرى حاملا أحدهم لأقرب مستشفى لإسعافه إذا وقع حادث.
«4 معديات يمر عليها ما يزيد على 9 سيارات محملة بالعمالة يوميا ناهيك عن بقية السيارات التى تزدحم بها المعديات وقت الذروة لدرجة أن كلا منها يضطر للانتظار قرابة نصف الساعة ليمر»، بهذه الكلمات بدأ الحاج عبدالحكيم عبدالمنعم، الذى اصطحبنا طوال الرحلة حديثه معنا عن عدد المعديات الموجودة على أطراف القرية وسعة كل منها، واتفق معه صابر أبوالحديد الذى كان فى استقبالنا اثناء مرورنا على المعدية قائلاً: سبق أن وعدنا محافظ الجيزة بمعدية خامسة، ولكنها من وجهة نظرى لن تحل الأزمة وكل ما نحتاجه هو كوبرى لمرور الطلبة والأهالى والسيارات والعمال.
بضعة أمتار ومعديتان فى الذهاب والعودة، تفصلك عن جبل أبوغالب الذى تغطيه المساحات الخضراء وينتشر على أراضيه أطفال لم يتجاوزوا الاثنى عشر عاما، هناك وبمجرد أن تطأ قدماك أرض المكان تلمح ملابسهم المتناثرة التى خلعوها عنهم ليحتفظوا بها نظيفة قدر الإمكان تعلوها بقايا الأطعمة التى تناولوها فور وصولهم، ليستطيعوا مواصلة ساعات العمل الست.
فى هذا المكان، تجدهم تجردوا من ملامح الطفولة التى تبدو على وجه كل من فى أعمارهم وتظهر عليهم بدلا منها علامات الكد والتعب، كفوف متحجرة وأصابع متسخة وأقدام عارية تقفز هنا وهناك تلبى نداء «الريس» عندما يصيح على أحدهم يطلب منه «الخطاف» فيسرع الأخير به ليجمع الحشائش، «لو قعدت يوم واحد فى البيت مش هصرف على إخواتى» بهذه الكلمات بدأ «رجب» ابن الاثنى عشر عاما كلامه عن الحرفة التى امتهنها منذ عام عندما دفعته الحاجة للمال للخروج من المدرسة والبحث عن عمل يلبى احتياجات أفراد أسرته الستة، يقول رجب محاولا أن يمحى عن ذهنه حلمه الذى كان يراوده فى الصغر بأن يكون طبيبا: «أنا أكبر أخواتى، تركت المدرسة العام الماضى وذهبت وأحد أهالى القرية ساعدنى وأخذنى معه كغيرى من الأطفال للعمل فى المزارع بالجبل».
حال «رجب» الذى أصيب بجرح فى رأسه أثناء مشاجرة بين السائقين على المعدية، لا يختلف كثيرا عن العشرات من أبناء قريته الذين لا يعرفون سوى لغة المال الذى يتقاضونه فى نهاية كل يوم ولا يتعدى 20 جنيها، يحكى رامى ذو الأحد عشر عاما تفاصيل يومه قائلاً: نأتى للجبل كل يوم فى الثامنة صباحا، نخلع ملابسنا ونرتدى أخرى بدلا منها نتناول الفطار ونمسك «الحشاش»، ونبدأ فى العمل حتى الساعة الثانية ظهرا، تأتى السيارات وتنقلنا مرة أخرى لمنازلنا، أستحم وأنام استعدادا لليوم التالى وهكذا، مخاطر رحلة الذهاب والعودة مرتبطة فى ذهن رامى بصورة صديقتهم التى سقطت من أعلى السيارة أسفل عجلاتها قائلاً: وإحنا على المعدية مرة حنان وقعت والعربية ماشية ونزلت تحت العجل، وإحنا كلنا بنخاف بس هنعمل إيه ده أكل عيشنا.
سعيد عاشور، مقاول الأنفار الذى يجلب كل يوم ما يقرب من 50 طفلا من المنوفية إلى الجيزة، ويقوم بتوزيعهم فى المزارع المنتشرة بكل مكان، يقول: ضحايا المعديات كثيرون، والمشكلة الأكبر التى تواجهنا هى عدم وجود مستشفى على مسافة قريبة، فذات مرة أصيب أحد الأطفال ولم أجد مستشفى لإسعافه سوى واحدة على بعد 80 كيلو من القرية، وليس هذا فقط ولكن أيضاً تكدس وازدحام السيارات على المعديات صباحا، قد يجبرنا للتأخر والانتظار بالساعات فى طوابير وبالتالى نضطر للعودة إلى المنوفية من جديد وينقضى اليوم دون عمل.
ويضيف: يأتى معى يوميا ما يقرب من 100 طفل أوزعهم على المزارع المختلفة حسب الحاجة، ومعظم الأطفال ولاد وبنات اضطروا لترك تعليمهم بسبب الحاجة المادية، ومنذ ما يقرب من شهر ونصف سقطت إحدى السيارات المحملة بالأطفال فى المياه وراح منا 9 أطفال، حماية الأطفال وتحديدا البنات من أى مخاطر قد يتعرضون لها مسؤولية عاشور الذى يقول: العيال دى فى رقبتنا من أول ما نخرج الصبح لحد ما يرجعوا بيوتهم سواء ولاد أو بنات.
بنظرات ملائكية وملامح أنثوية تبدلت بعلامات امراة فى الخمسينيات من عمرها، وقفت رضا ابنة الاثنى عشر عاما، تراقب المشهد من بعيد حتى صاح عليها الريس وأمرها أن تتحرك وتسرع فى جمع الحشائش فقفزت ولسان حالها يقول: لن يختلف وضعى عن غيرى من البنات اللاتى تربين داخل تلك المزارع حتى حان وقت زواجهن وعادوا مرة أخرى لنفس الأرض التى رحلوا عنها ولكن هذه المرة بصحبة أطفالهن ليعملوا فى نفس المهنة.
أمل جودة محامية ومدربة فى مجال دعم وحماية حقوق الطفل قالت: إن الأطفال العاملين فى مجال الزراعة يتعرضون دائما لمخاطر عديدة تصل إلى حد الموت، بالإضافة إلى أنه لا يتوفر لهم أى حقوق من قانون العمل، مطالبة بأن يحظر تماما عمل الأطفال فى الزراعات والمحاجر لأن هذه الأعمال تضرهم.
وأوضحت أمل جودة أن هناك قانون 12 سنة 96 الخاص بحقوق الطفل إلى تم تعديله بالقانون 126 لسنة 2008 حاول تفادى الأخطاء فى القانون القديم بوضع معايير لعمل الطفل أن يبدأ التدريب من سن 12 على أن يبدأ العمل فى الـ14 إلا أن هذا القانون لم يتم تفعيله بشكل واسع حتى الآن، وأوضحت أن الدستور الجديد تجاهل أيضا حقوق الأطفال خاصة العاملين فى مثل هذه الأعمال الخطرة.
وأضافت أن مادة الطفل فى الدستور سمحت بعملهم فى أعمال مناسبة، لافتة إلى أن هذه الكلمة واسعة وفضفاضة وتركت الأمر مفتوحا، لأن الأعمال المناسبة قد تختلف من وجهة نظر شخص لآخر، وطالبت أمل جودة أن يتم التأمين على الأطفال العاملين فى هذا المجال بحيث يصبح لهم معاش حتى وإن كان صغيرا وأن تعتبرهم الدولة من الفئات التى تستحق المعاشات، بالإضافة إلى أن يتم تحديد عدد ساعات العمل.
كما أشارت إلى ضرورة وجود لجان تأمين وحماية فى كل محافظة، بالإضافة إلى أن تقوم مؤسسات المجتمع المدنى العاملة فى مجال الطفولة بتنظيم ورش ومحاضرات توعية للأمهات لتعريفهم بحقوق أبنائهم.
فى حين قال أحمد عبدالعليم، عضو مجلس إدارة الائتلاف المصرى لحقوق الطفل، إن عمالة الأطفال فى مجال الزراعة تحديدا من القضايا الخطرة جدا والمسكوت عنها فى مصر لأن القوانين المصرية لا تدرجها تحت بند العمالة، مؤكدا أن ما يتعرض له الأطفال فى قرية أبوغالب حدث فى الصعيد وقرى البحيرة.
وأكد عبدالعليم أن الدستور الجديد به عوار سياسى لأنه لا يحدد سن الطفل كما أنه لم يحدد نوع العمالة، لافتا إلى مادة الطفل فى الدستور من الممكن أن تصبح وسيلة لانتهاك حقوق الطفل وليس حمايته، وأشار إلى أنه لابد للدولة أن تغير سياستها تجاه الأطفال لأن هناك انتهاكات واضحة توجه ضدهم.
وبرغم هذه الانتقادات الموجهة لعمالة الأطفال خاصة فى مجال الزراعة فإنه وفقا لآخر تقارير الجهاز المركزى للتعبئة العاملة والإحصاء الذى أشار إلى أن عدد الأطفال العاملين فى مصر يبلغ 1.6 مليون طفل وفقا لنتائج المسح القومى لعمالة الأطفال من إجمالى 17.5 مليون طفل مقابل 2.7 طفل عام 2001، وتصدر قطاع الزراعة النشاط الذى يعمل به الأطفال ليصل إلى %63.8 من إجمالى الأطفال يليه القطاع الخدمى %18.5 ثم القطاع الصناعى %17.7، وكشف المسح عن أن %30 من عمالة الأطفال يعملون فى صناعات خطرة.
بالصور.. رحلة الموت مع أطفال المزارع فى قرى الجيزة سيارات نصف النقل تحمل أكثر من 50 طفلا لا تتعدى أعمارهم 15 عاما.. و«حنان» سقطت أسفل العجل و«رجب» أصيب بجرح فى رأسه أثناء مشاجرة بين السائقين
السبت، 23 مارس 2013 11:02 ص
أطفال المزارع.. مأساة تبحث عن حل
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة