يسرى السيد

أمى.. أبحث عنك فى ملايين الوجوه.. ولا أجدك!

الخميس، 21 مارس 2013 11:21 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
الله يرحمك يا أمى..
لم يفارقنى وجهها لحظة
ومع ذلك أبحث عن وجهك فى كل وجوه الأمهات
أسير فى الطرقات والشوارع والأسواق
زائغ البصر، تائهاً
أدقق النظر فى كل من أقابله
التفت يمينا ويسارا
ابحث عن وجهك كاملا
لا أجد
وعندما يصيبنى الفشل، أسترد ما تبقى من قوتى معيدا المحاولة، ومحاولا ضرب اليأس فى مقتل:
مش مهم الوجه أو المظهر كاملا
ممكن تجميع ملامحك ولو من مليون وجه...
أحاول أن أكون شكلك من آلاف الوجوه التى أمسحها بدموعى فى لحظات...
هاتان عينان يشبهان عيناك
لا
لونهما ليس أسمر كسواد الليل مثل عيناك
نظراتهما ليست صافيتان مثل نظراتك
أين شلال الحنية المنساب كالسلسبيل منهما؟
لا عين تشبهك
نعم عين من عيناك أتعبها الزمن فأصيبت بـ"وهن" النظر
بعد أن كان حديدا
ومع ذلك حولت البلاء إلى نعمة من ربنا، استمتعت بوهن النظر كما كنت تسخرين، ومعك بعض الحق،
لا.. كل الحق
حتى لا ترين الجحود وقلة الأصل!
هذا أنف يقترب من أنفك
لا
أنفك أصغر "شويتين"
وحاسة الشم عندك أكثر قوة
تفرقين بسهولة بين شعرة "الخبيث " و"الطيب"
تدعكين أنفك قائلة:
يا بنى شامة ريحة شياط
اضحك
تكملين كلامك بثقة وغير مبالية بسخريتى:-
- بكرة تشوف
وتثبت الأيام صدقها.
هذا شعر مثل شعرها فى الصغر
نعم أسود فاحم
لكن شعر أمى أصبح خفيفا وأبيض فى الكبر
لم تحب أبدا صباغته ولو بالحنة السمراء
تقول ساخرة:-
- ح نضحك على الزمن بشوية حنة وصبغة إزاى يا بنى
أرد ساخرا
- دول بيشدوا "الوشوش" دلوقتى يامّا
ترد:-
- وإزاى بيشيلوا "الهموم" ويشدوها ويجرجروها من على الوش والظهر يا بنى
أقول:
أشيل عنك يامّا
ترد: شالت عنك العافية
هذا فم صغير مثل فمك
لكنه لا يقطر حكمة وحنانا مثلك
هذه ذقن تشبه ذقنك يا أمى
مازلت أذكر عندما كنت أعاكسها وأحاول تشويكها بذقنى "النابتة"
تضحك قائلة: روح اشترى موس بنص إفرنك، وشيل ذقنك المقشة دى
أضحك قائلا: طب ح اربى شنبى
ترد: ربى حاجة تنفعك
ثم تستطرد وكأنها تنسج ثياب الحكمة:
- الرجولة مش بالشنب يا بنى، فى ست بمليون رجل، وفى رجالة م حصلوش النسوان.
أبحث فى الوجوه عن وجهك
لا أجد
أحاول الاكتفاء ولو بنظرة عين أو مسحة حب أو ملامح سحنة
لا أجد
ولدت فى المنوفية، ولم أعش بها، وكنت أتمنى...
وكانت المفاجأة أن نقلت أمى القرية إلى بيتنا فى القاهرة، وللدرجة إللى جعلتنى أعرف وأحفظ كل شىء فى قريتنا والقرى المجاورة عن ظهر قلب
عن البشر والحجر
"الدور" والطرقات
السواقى والغيطان
المحراث والفأس "اللى بتكسره المدفونة"!
الجنيات والعفاريت
الجبانات والترب القديمة التى تحولت لمكان لدفن السحر والأعمال
الحكايات والحواديت
الميراث والدم
الحقد والغل
أنواع الزرع والورد
أشجار الفواكه وحكايات الجميزة الكبيرة وشجر الجازورينا وأم الشعور اللى بتغسل شعرها عند الساقية القبلية
النحل وخلاياه الطينية والخشبية
وعسل النحل وأنواعه
ده عسل بطعم نوارة البرسيم وده بطعم رائحة البرتقال وآخر بطعم الورد...إلخ
ودرس عملى عن كشف العسل المغشوش بماء السكر من العسل الصافى
والتجربة بعود كبريت أو بالإصبع الصغير
إذا انقطع خيط العسل المنساب من عود الكبريت بعد غمسه فيه، كان العسل مغشوشا
وإذا استمر الانسياب حتى آخر نقطة كان العسل صافيا!
أين أنت يا نبع العسل الصافى!
فى القرية أو "البلد"، كما نحب أن نطلق، كنت أفاجئ أولاد خالى بحكايات أمى عن أى شخص يأتى إلى بيت خالٍ بمجرد سماع اسمه، فأنا أعرف الأسماء غيابيا عن ظهر قلب، ولا أعرف أشكال أصحابها
كانت جامعة شعبية، حفظت منها الأمثال وورثت عنها بعض الحكايات والقدرة على "القفشة" بالنكتة والسخرية، وإن لم أتمتع بخفة دمها!
***
عندما "توحشنى" وأشعر بحنين لها...
أهيم فى الطرقات
علنى أتشمم بقايا أنفاسها
أحاول أن أسير فى نفس الطرق
علنى ألمس بعضا من تراب داست فوقه
فى مقام السيدة زينب أجلس أبكى
هنا كانت تأخذنى وأنا صغير وتحملنى حتى "أطول" المقام باكية وقائلة بكلام مبلل بالدموع والرجاء:
- يا رب بارك لى فيه
وعندما نخرج من المقام تكرر حكايتها التى لا تمل من تكرارها
فى ليلة نمت حزينة بسبب موت من سبقوك، ومعايرة زوجة عمك لى بأننى لن أنجب سوى البنات إذا حصل، وهى أم الصبيان
كانت تدلعهما وتغنى لهما، و"تلقح" وتقذف بالأغانى والكلام "السم" على، نمت ودمعى مغطى المخدة، وجاء الحلم البشارة،
السيدة زينب بشرتنى بك قبل الحمل فيك، لذلك آتى إليها بين الحين والحين لسداد بعض الدين!!.
***
كلما أردت أن أستعيد حكاية أمى أذهب لمقام الست وأجلس
وبعد فترة لا أعرفها أخرج مغتسلا من وحدتى وحزنى وضيقى ومتدثرا بصوت أمى وسخريتها لمواجهة الحياة
***
أمى هى المرأة الاستثناء
خلقها الله لى ولم يخلق مثلها
النور شلالات من عينيها
النيل ينساب فوق وجنتيها
الشمس تشرق من وجهها
ولفحة الشمس و"الشقى" المقدس يسكنان جبينها
هى المرأة الوحيدة التى أحبتنى بدون غرض
رحل أبى قبلها، فـ"انكسر" ظهرى
ورحلت هى فـ "انكسر" قلبى
وكان كسر القلب أقسى وأشد
لم تنفع معه جبائر جبس أو دعامات
منذ رحيلها
تحول يوم عيد الأم إلى نكد
وعيد الأضحى بدون "أكلها" إلى جوع حقيقى
وعيد الفطر بدون كعكها وبسكويتها إلى علقم وحنظل
عيد بأى حال عدت يا عيد
بدون أمى صرت مع أمثالى شريدا

* مدير تحرير جريدة الجمهورية.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة