إذا كنت تحاور أحدا ذات مرة، واكتشفت جهله بما يدور الحوار حوله، فواجهته بقولك: "أنت جاهل بهذا الأمر" طبعا سيقيم الدنيا ولا يقعدها، وقد يصل به الأمر إلى سبك، أو من الجائز ضربك، وذلك دون محاولة منه لتبين صدق مقولتك من عدمه، وسوف تسد مسارات العقل لديه، وينقلب الحوار إلى جدل عقيم، لا طائل من ورائه.
لماذا يحدث كل هذا؟ هل لأن الكلمة- أعنى كلمة "الجاهل"- كلمة فظة غليظة خشنة جارحة، يجب استبدالها بما هو أخف على النفس، نحو: لقد غاب عنك كذا، أو هناك معلومات أخرى حول الموضوع، وهكذا عملا بالحكمة القائلة: "إن الحقائق مُرّة، فالتمسوا لها خفة البيان"، وكذلك "إن النصح ثقيل، فلا ترسله جبلا، ولا تجعله جدلا".
أم أن هناك أمر آخر- يتعلق بعدم معرفة الإنسان بحقائق الأشياء- وهو أن الجهل فى الإنسان أمر طبيعى إذا قيس علمه بعلم غيره الذى هو أعلم منه، حتى نصل فى نهاية الأمر إلى قمم التخصص فى كل علمٍ أو فن، وبين هذه القمم من يفوقهم جميعا والذى يعتبر مرجعية فى هذا الأمر، ويعتبر الإنسان فى كل هذا جاهل بالنسبة لمن هو فوقه فى المرتبة، ونصل فى النهاية إلى النسبة الكبرى: وهو جهل البشرية جميعها منسوبة إلى علم الله، ولننظر إلى قوله عز من قائل: "وفوق كل ذى علم عليم" وقوله تبارك وتعالى "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا".
إذن فالبشرية جميعها- من لدن آدم حتى قيام الساعة- جهلها محقق منسوبة إلى علم الله، "ما لم يصل بك علمك إلى الجهل فإنه مهلكك"، أى: إذا افتتنت أو أُعجبت بما تحمل من علم فلتنظر إلى علم الله، علماً بأن الجهل ليس هو عدم العلم.
ينبغى لنا أن نُعرِّف العلم حتى نستطيع أن نفرق بينه وبين الجهل، فما يقال له علم هو: "النسبة الواقعة المجزوم بصحتها وعليها دليل"، فإذا كانت غير واقعة فذلك الجهل، وإذا كانت راجحة فذلك ظن، وإذا كانت مرجوحة فذلك وهم، وإذا كانت فى الوسط كانت شكًا، فهذه نسب المعرفة الخمسة.
والعلم عكس الأمية، فالأمية هى ألا تعلم، أما الجهل هو أن تعلم شئ غير حقيقى وغير واقع، ومقابله المعرفة وهى التحقق من الشئ وانفعال الملكات والحواس به، وقد سئل الإمام على رضى الله عنه وكرم الله وجهه، "من العالم؟ قال من يضع الشىء مواضعه، قيل له: فمن الجاهل؟ قال قد أجبت"، أى هو الذى لا يضع الشىء مواضعه، ولذا فالتعامل مع الجهل أو الجاهل أمر صعب لأنه من المستحيل أن تقنعه بشئ ومعه مقابله، فأنت محتاج أولا أن تُخرج منه الخطأ، ثم تُدخل مكانه الصواب، كما قال بذلك الراحل فضيلة الشيخ الشعراوى رضى الله عنه، وها هو الإمام الشافعى يقول: "لو جادلنى ألف عالم لغلبتهم، ولو جادلنى جاهل لغلبنى جاهل فانبذوه".
وعلينا أن نتعلم كيف نتعامل مع كل نوعية، ونعطيها حقها فى التعامل، فنعطى للعالم قدره من التقدير والاحترام، وللمتعلم من الرحمة والمحبة، وللغافل من النصيحة، وللجاهل من الحذر والحرص على تجنب الوقوع معه فى الجدل غير المثمر والذى يوصل إلى طريق مسدود، وقد حذّر الحكماء والعلماء من الجاهل، وهذا هو الحديث النبوى الذى رواه الديلمى من حديث أنس قوله صلى الله عليه وسلم "ويل للعالم من الجاهل، وويل للجاهل من العالم"، وقول الإمام على- رضى الله عنه- فى التحذير من النصيحة للجاهل بقوله: "إياكم والنصيحة للعامة".
صورة ارشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة