لم يفارق جدار الذاكرة ذلك المشهد الذى طالعته صغيرًا بعد الطغيان الكمالى فى تركيا، والتنكيل بأهل العلم، قتلا وتهجيرًا وسجنًا، وكل ما كان ثمرةً لإسقاطه الخلافة سنة 1924.
إذ يدخل عالمٌ تركى يحمل على كتفيه عمرَه الطويل، وبين يديه مشنقةٌ وجلَّاد، وليس له من تهمةٍ إلا رفض الخضوع للقبعة الغربية، والإصرار على ارتداء العمامة والطربوش اللذين ينتميان إلى حضارتنا الإسلامية..
أتكون تلك القماشة الصغيرةُ مشنقته؟!
حَسَنا! فليُنَحِّها جانبًا، وليفز بحياته بعيدًا عن هذا الصراع الفارغ! تلك كانت نظرة القاضى المتهكمة إلى هذا الرجل الذى يغامر بحياته على مذبح الوهم من أجل قطعة قماش!.
تقف الحقيقة المؤمنة فى شخص هذا العالم النبيل؛ ليعرى تلك العقلية المستعبدة لسطوة الباطل فى شخص هذا القاضى، ويشير إليه قائلًا: هذا العلم التركى الذى خلفك، أيصح لك أن تستبدله بعلم دولة أخرى، وكلاهما قطعة قماش لا فرق بينهما؟!
فيصمت القاضى مفلسا!.
هذه الروح العالية، لا تتلون أمام سطوة الباطل، ولا ترى الإسلام إلا كلا حيًّا حاكمًا على التصور والحياة فكرًا وسلوكًا وغايةً، بعيدًا عن دنس "التبعية" التى تعظم كل "وافد"، وتقبل كل "دخيل"، وتجعل له الهيمنة على الوحى الذى لا حياة للإنسان إلا به، مما ينقل القداسة من الإلهى إلى البشرى، كما يقول المحامى والقانونى الألمانى الشهير كارل شميت، فى كتابه اللاهوت السياسى، الذى يرى فيه أن عصب الدولة الحديثة "لاهوتى مُعَلْمَن"، يجعل من القانون الوضعى مقابلا للاهوت، والسيادة المطلقة للدولة التشريعية مقابل السيادة المطلقة للإله، والسلطة الاستثنائية مقابل المعجزة!.
وهذا المعنى له تجليات متعددة فى فكر د. طه عبد الرحمن، الذى يرصد بعمقٍ ملابسات العلاقة بين العلمانى وما يسميه "الديَّانى".
الغريب أن ذلك المشهد التركى العتيق، يعاد اليوم فى صورة جديدة، يعتلى فيها منصة القاضى أحد الذين أدمنوا رفع شعارات الإسلام، والسعى إلى تطبيق المشروع الإسلامى، ليقول لآخر يحرص على تطبيق شريعته والحفاظ على شعيرته: "ما أتفهكم! هو ده وقته"!.
والمحنة أن يتسارع بعض حملة الوحى إلى نسج القبعة بيده، وعلى عينه، والدفاع عنها، والسير فى إكمال المشروع "الكمالى" من أجل المصلحة العامة!.
لم كان هذا؟!
يقول الباحث والكاتب التركى محمد زاهد كامل جول، فى ورقة بحثية له: "وإذا علمنا أن كل الأيديولوجيات التَّسْيِيسية تعدُّ الدِّين عائقًا من أشدِّ العوائق التى ينبغى التَّعجيل بقهرها، حتى يتمهد السَّبيل إلى الإصلاح والتَّغْيير، فحينئذٍ لا نستغرب أن يضطر كلُّ من ساقته المصلحة إلى التَّعاون مع هذه القوى التَّسْيِيسية إلى أن يتستر أو يتنكَّر لاختياره الدِّينى، كما حدث مع أنصار (التَّديُّن السِّياسىّ) فى سياق التَّحول إلى حركاتٍ سياسيَّةٍ تنشد الدَّعم والمساندة والتَّأييد، فكان لا بد لها من التَّعاون، الأمر الذى أفضى إلى الارتباط مع مجمل الأيديولوجيات التَّسْيِيسية المهيمنة بعلاقاتٍ تهدف إلى كسب التَّعاطف مع قضاياها التى تناضل من أجلها، إلا أن ثمن هذا الارتباط كان على حساب تهميش العنصر الدِّينى والرُّوحى فى مطالبها وبرامجها وسلوكها النِّضالى"!.
لكنَّ "مولانا"- للأسف- مصرٌّ على أن هذه القبعة أحد منتجات المشروع الإسلامى فى الإصلاح والتغيير!.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
سعاد عبد الغفار
تركيا لم تتقدم إلا بعد الأخذ بالمبادئ العلمانية
عدد الردود 0
بواسطة:
مواطن
الى 1 - وهل كانت الحضارة الإسلامية العظيمة على مبادىء علمانية ؟
عدد الردود 0
بواسطة:
كرم
الي رقم 1