قابلته منذ أيام بعد فراق سنوات. . ملامحه لم تتغير كثيرًا. . خط الزمن على جبينه ملامح الأسى والحزن.
سألته عن حاله وحال قريته التى تقبع فى جنوب الصعيد، فأجابنى بشكر الله، ودعانى لزيارته فى جنوب الصعيد وكنت فى أمس الحاجة إلى إجازة حتى أبدد إرهاق العمل.
لم يمض سوى أسبوع حتى تقابلنا فى محطة مصر وأخذنا القطار، الرحلة طويلة، أخذنا نتبادل أطراف الحديث، انتقلنا من موضوع لآخر حتى وصلنا إلى التنمية فى الصعيد. أخذت أقص عليه ما تتناوله وسائل الإعلام من اتجاه الحكومة لتنمية الصعيد، ورفع مستوى معيشة المواطن.
وأضفتُ أن الصعيد تعوقه عدة مشكلات اجتماعية، مثل الثأر، وعدم الاهتمام بالتعليم وخاصة للبنات، وهو ما يعرف بمشكلة التسرب من التعليم، بالإضافة إلى العصبية القبلية والهجرة من الصعيد إلى العاصمة والوجه البحرى.
تركنى صديقى أتحدث باستفاضة وهو يطرق إلى باهتمام، فظننتُ أنى بلغت من الأمر غايته وأنى أصبتُ كبد الحقيقة.
حتى خرج صديقى عن صمته وقال لى: اسمع يا عزيزى، إن كل ما قلته لى عن الصعيد والتنمية ومشكلاتها بعيد كل البعد عن الحقيقة.
وسأسمعك كلامًا لن تسمعه من وسائل الإعلام قط.
إن التنمية يا أخى لابد أن نشعر بها نحن أبناء الصعيد قبل غيرنا.
ليس من التنمية أن تبنى لنا المصانع على أرض الصعيد وتأتى بمهندسين وعمال لهذه المصانع من محافظات أخرى. وليس من التنمية أن ترصف شوارع المدن وتترك القرى تتخبط فى طرق وعرة غير ممهدة. وليس من التنمية أن يقتصر الصرف الصحى على المدينة وتعانى القرى الأمرَّين من غيابه. وليس من التنمية أن تتمتع المدينة بالكهرباء ليل نهار وتنقطع الكهرباء عن أبناء القرى فى موسم الامتحانات.
التنمية يا أخى تبدأ من المواطن لا من المكان.
أدهشنى كلام صديقى ابن الصعيد وسألته مستفسرًا: كيف تبدأ التنمية من المواطن لا من المكان؟ أخبرنى قائلاً: اسمع يا صديقى: إن التنمية لا بد أن يكون محورها المواطن ففى البداية يحتاج المواطن فى الصعيد إلى فرصة عمل مناسبة فنقيم له المصانع والشركات لتوظيفه هو لا أحد غيره. ثم يحتاج المواطن إلى سكن فنقيم له المشروعات السكنية المختلفة مثل شقق الشباب والأرض التى توزع بأسعار رمزية للشباب ليسكن فيها المواطن الصعيدى لا أحد غيره.
وقس على ذلك كافة النواحى مثل التعليم والصحة.
أقنعنى كلام صديقى ابن الصعيد، ثم سألته عن المشكلات الاجتماعية التى ذكرتها له كيف تُحل؟ فأجابنى: يا صديقى إن ما ذكرته من مشكلات لن تجدها.
قلت: كيف؟ قال: إن وجد المواطن فرصة عمل مناسبة ومسكنا ملائما ستجده من تلقاء نفسه أدخل أبناءه وبناته المدارس واستوطن فى بلدته وحل مشكلاته بعيدًا عن العصبية والقبلية. واختلف تفكيره نحو مشكلة الثأر وغيرها من المشكلات الاجتماعية.
وأضاف: إن التنمية ليست كلامًا، وإنما التنمية تغير فى مستوى معيشة الفرد، والصعيد يحتاج لنظرة أشمل وأعمق من نظرتكم الحالية له.
وفى هذه اللحظة وصل القطار إلى محطتنا المنشودة فى محافظة قنا وتوقفنا عن الحديث مع توقف القطار.
وللحديث بقية عن تفاصيل رحلتى إلى بلدة صديقى.
