فجأة ودون أى مقدمات، وبعد رفضهم كُل سبل الحوار وسط الدماء ضاربين المثل فى الثورية والثبات، فوجئنا صبيحة يوم ما بقادة جبهة الإنقاذ على شاشات التليفزيون مع رموز المعارضة الصورية والحقيقية، ورموز الكنيسة والأزهر وهم منهمكون فى توقيع ما يمسى بـ "وثيقة نبذ العنف". لم يكن هذا الأمر هو ما يثير الدهشة فلطالما سمعنا من أولئك القادة عبارة "كلنا ضد العنف .. من منا مع العنف؟"، ولكن الأمر المثير للدهشة حقاً هو أن هذه الجلسة الدافئة لم تضم أى شخص ممن لهم علاقة بالعنف، فمثلاً لم نرَ وزير الداخلية ولا المرشد العام للجماعة الحاكمة ولا ممثل عن حركة حازمون، كما لم نرَ شخصا يرتدى قناعاً أسود، وكأن هؤلاء الأشخاص ينبذون العنف من جانب المتظاهر السلمى الذى لا يملك إلا صدره المفتوح للرصاص وحنجرته الصادحة بالحرية، وكأنهم ينبذون عنف هذا الرجل الذى شاهده العالم مجرداً من ملابسه، ملقى على الإسفلت يتلقى الركلات والصفعات والسحل أمام الجميع، وكأن السادة الموقّعين أدنى الوثيقة يقومون بدور الصديق الذى يتدخل فى الخناقة متظاهراً بمحاولة الفصل بين صديقه وخصمه، ولكنه فى الحقيقة يعمل على تقييد الخصم ليترك لصديقه المجال ليبرحه ضرباً فاقداً كُل مجالات الدفاع عن النفس.
للجميع أن يسترجع المشهد الآن، عدد من قوّات الأمن يطوّقون رجلاً ملقً على الأرض ويجردونه من ملابسه ويسحلونه عارياً نازفاً فوق الأسفلت ويركلونه فى كل أنحاء جسده العارى بلا رحمة، بينما يقف السادة الأطهار قادة المعارضة و"الإنقاذ" ليمسكوا بأيدى وأرجل الرجل قائلين له "لا للعنف".
المشهد الآن بات واضحاً بما يكفى، ليكتمل الجزء الأكثر تعقيداً فى اللوحة، النظام يتوعد والأمن يفترس المتظاهرين والمعارضة تظل تنبذ وتنبذ حتى تُكتب عند الله "نابذة"، النظام يواصل طريقه والأمن ينتقم ممن يرى أنهم قد "كسروه" خلال الثورة، والمعارضة ثابتة على موقفها فى "النبذ"، وعلى أطراف اللوحة يقف الجنرال المتقاعد وملامحه غير واضحة وصوت ضحكاته يكاد يغادر إطار اللوحة ليصم الآذان.
وتكتمل اللوحة بمنظر رأسى لرجل مجرد من ملابسه يتلقى كعوب البيادات فى شتى أنحاء جسده، ولا يستدفئ إلا بدمائه التى لا يستر جسده سواها، ولمن يدقق النظر فى هذه الزاوية من اللوحة أن يرى كفوفاً ممسكة بأقلام توقّع على جسد هذا الرجل مُكللين توقيعاتهم بعبارة "لا للعنف".