منذ تفجر أعمال العنف فى بر مصر مع مرور الذكرى الثانية لثورة الخامس والعشرين من يناير، ظهر عدد من المقالات تنظّر لعنف 28 يناير 2011، باعتباره السبب الرئيسى فى إسقاط النظام وفى نجاح الثورة. تسرد هذه التنظريات لقصص حرق الأقسام والمقرات والمبانى الحكومية التابعة للحزب الوطنى والتى شهدتها جميع المحافظات من جهة، وتنتقد من جهة أخرى كل من يتنسم ذكريات سلمية الثورة دون عنفها، واصفة إياهم بـ"ولاد الناس الكويسين"، أو "الشباب الطاهر"، أو "الشباب الكيوت"، بحسب وصف عدد من المنظرين لعنف ذلك اليوم.
(1) العنف: من وأين؟
حتى نسلم أو لا نسلم بفرضية أن العنف وحده أسقط النظام، يجب أن نفند أولاً من الذى قام بالعنف وأين مارسه وماذا كانت نتيجته؟
فى المطرية مثلاً وفى السيدة زينب ودار السلام وبولاق الدكرور وفى المحلة والسويس وعدد من المحافظات والميادين، بدأت الشرطة فى التعامل بعنف مع المتظاهرين حتى من قبل صلاة الجمعة لمنع التحام المتظاهرين بالشعب، خاصة فى المناطق الشعبية والعشوائية والمناطق ذات الكثافة السكانية العالية، وهو ما تكرر فى ميدان الجيزة، لسبب سياسى وهو إخراج البرادعى من المعادلة مبكراً، بعكس مثلاً مظاهرة مصطفى محمود التى تأخر الالتحام فيها بين الطرفين حتى ميدان الجلاء، ثم حدثت معركة قصر النيل، أو "ذات الأسدين" كما أحب أن أطلق عليها.
حتى هنا كانت الدولة ممثلة فى الداخلية هى التى بدأت العنف، وكان المتظاهرون فى خانة رد الفعل (إعادة إلقاء القنابل المسيلة للدموع – مولتوف – طوب – حرق مدرعات دهست متظاهرين)، واستمر هذا الكر والفر بين الطرفين، ساعات طوال من بعد صلاة الجمعة وحتى بعد صلاة العصر.
(2)
أعود للوراء لمساء الخميس 27 يناير. شهادات من عدد من الأهالى عن بلطجية فى الشوارع يرهبون الناس فى عدد من المناطق. هناك بلاغ مقدم من قريب لى فى شبرا مساء الخميس ضد بلطجى استوقفه وقال له: "خرجونا من الأقسام نقلب رزقنا بره. هاتطلع اللى معاك بالذوق ولا ناخده بالعافية".
(1) نعود للنقطة الأولى:
أين مُوِرس العنف؟ هناك عنف بل وإرهاب مورس من الداخلية ضد المتظاهرين فى الشوارع والميادين، وكان الرد مجرد طوب ومولوتوف من المتظاهرين. سقط عشرات بل مئات الشهداء فى الشوارع والميادين، وكان العنف لايزال رد فعل من جانبنا.
أمام الأقسام حدث مشهد مختلف، حيث كان العنف هو الفعل: فى السيدة زينب، فى المطرية، فى بولاق الدكرور، فى محافظات أخرى، مرت مظاهرات من أمام الأقسام التى شهدت "سلخانات تعذيب" و"حبس دون تحقيق" و"أعمال قتل بدم بادر"، وكان من الطبيعى أن يستهدف المتظاهرون السير أمام تلك الأقسام
وهنا تعالوا نستعرض من وقف هناك:
1- متظاهرون سلميون: التظاهر أمام القسم سلمياً كان شيئاً طبيعياً، فالثورة قامت بناءً على إيفنت على الفيس بوك ضد تعذيب مواطن اسمه خالد سعيد استشهد على يد مخبرين. القسم كان يمثل لنا الدولة بكل قمعها.
2- أهالى مظلومون: كانت لحظة فارقة أن تجد زخماً ثورياً ضد قسم شرطة تعرضت أنت فيه لهتك عرض أو تعذيب بالكهرباء أو ابتزاز أو تهديدات مستمرة، لذلك كان اقتحام أو حرق القسم فعلاً انتقامياً "مبرراً" بالنسبة لهؤلاء فى تلك اللحظة، وأحسب أن هذا النوع كان: "انتقام فئوى" أو "ثورة فئوية" لمن تعرضوا للقمع الأمنى طوال سنوات ما قبل الثورة، وقد وجدوا ثورتهم فى لحظة اقتحام أو حرق القسم.
3- بلطجية: هناك مسجلون خطر كانت لحظتهم المناسبة لحرق الأقسام واقتحامها لتهريب آخرين من الداخل، وهو ما تكرر طوال عام 2011 بشكل شبه أٍسبوعى، وهو ما (قد) ينذر بأن هؤلاء من كانوا فى الطليعة أمام الأقسام مساء 28 يناير.
4- بلطجية مأجورين من الداخلية: وهى ظاهرة عرفت أثناء الانتخابات البرلمانية إبان الحزب الوطنى، وهم بلطجية تواجدوا أمام الأقسام واندسوا وسط الفئات السابق ذكرها، بل وشاركوا فى عمليات الاقتحام، ضمن خطة نشر الفوضى، وهم الذين دخلوا مقرات الوطنى وحرقوا الأوراق والمستندات، ثم سرقوا المحتويات، وهذا لا يخفى فرحتى بمشهد حرق الوطنى بالطبع.
وطبقاً للقانون، لا يمكن لرجل شرطة يدافع عن منشآة حكومية أن يقف بلا حيلة، ولذلك كان رد الفعل هو: الرصاص الحى، وهو ما أشعل الأوضاع أكثر وخلط بين كل هؤلاء، وتسبب فى زيادة العنف المضاد للرد على "بلطجة / بطولة" ضابط الشرطة الذى يدافع عن منشآته، وهو أمر محسوم قانوناً لصالح الضابط، ومحسوم ثورياً – للأسف - لصالح الواقف أمام القسم، دون تفريق بين المتظاهر السلمى وبين مسجل الخطر وبين البلطجى المأجور وبين المتظاهر المنتقم.
إذن، من مارس العنف؟ مطلوب مراجعات ثورية لمن شارك فى هذه الوقفات والمظاهرات أمام الأقسام.. مطلوب مشاهدات الأهالى، ليس كل من قام بالحرق ثائراً.. فلو كان بلطجياً، وهو أمر وارد، فأنا لا أفخر بهذه اللحظة من تاريخ ذلك اليوم، أما لو كان ثائراً أو مظلوماً، فقد اختلف معه فى أن يكون الفعل مصدر فخر أم لا، ولكن لن أختلف معه فى أن الفعل كان غير مسيطر عليه حينها.
(3)
يحكى أحد الأصدقاء والذى يعمل كضابط أمن مركزى، بعد الثورة أنه اضطر أن يقف وحيداً فى شارع الهرم بملابسه المدنية فى الرابعة عصراً من ذلك اليوم المشهود؛ لأن الاتصالات انقطعت بينه وبين القيادة، ولم يكن هو بمفرده، ولكن تكرر الأمر مع كثير من زملائه، فموجة الاتصالات على اللاسلكى قُطِعت من القيادة. ثمة خطة أرادت توريط كل ضابط فيما يرتكبه من جرائم بعد تلك الدقيقة. يفسر الضابط هذا الأمر بأن القيادة أرادت التضحية به.
قصة الضابط، وقرار نزول القوات المسلحة، قد تؤشر أن إسقاط الداخلية كان قراراً فوقياً لم يكن مرتبطاً بصورة أو بأخرى بالمعطيات على الأرض، فهناك مناطق اختفت فيها الشرطة دون أن يقترب متظاهر واحد من الأقسام (بالطبع تلك المعطيات كانت سبباً فى استدعاء القوات المسلحة)، لكن سيناريو ما بعد تنحى مبارك يوضح أن ما حدث فى 11 فبراير هو ثورة عسكر على التوريث ورجاله وعلى دولة حبيب العادلى (الداخلية)، وهو ما قد يفسر أن نزول القوات المسلحة كان مرهوناً بسحب الشرطة من الشوارع، كخطوة للتخلص من الطرفين.
(4)
كنت أمام مسرح البالون فى السادسة من مساء 28 يناير، بعد المشاركة فى معارك طاحنة على كوبرى قصر النيل ثم على كوبرى 15 مايو ثم الزمالك. هناك وجدنا تاكسى وحيداً يمشى بالشارع، فأوقفناه سريعاً، ولكننا لم نبرح مكاننا حتى ظهر أمامنا شابان يحملان شومة، طلبا من السائق الوقوف قائلين: "أدينا جركن واملاه شوية بنزين.. يا إما مش هاتعدى".. نزل السائق مسرعاً وأخرج لهم جركن بنزين احتياطى من شنطة السيارة، وأعطاهم إياه.. نظروا لداخل التاكسى ودققوا النظر فى وجهى ووجه صديقى، ليتأكدوا هل كان أحدنا شرطة؟ بالطبع نفينا "التهمة" وقالوا أصل إحنا رايحين "نفش...".
استوقفتنى فكرة "تثبيت" المواطنين من أجل "سرقة" بنزين بالإكراه لاستكمال "الثورة"، هناك تفسيرات كثيرة يمكنك أن تسوقها لفكرة الانتقام من الداخلية، ولكن ما حدث بعد انتهاء المظاهرات السلمية مساء يوم الجمعة بكل تأكيد ليس كله عملاً ثورياً كامل الأركان، فهل كان هذا الشاب ثورياً أم بلطجياً يرغب فى إخراج أحد أقاربه من قسم من الأقسام؟ ما العلاقة بين الثورة وبين السرقة بالإكراه؟
(5)
إذن، عن أى عنف أنجح الثورة تقصدون.. هل "عنف رد الفعل" أو الدفاع عن النفس فى الشوارع والميادين نتيجة إرهاب وإجرام الداخلية؟ أم "عنف الفعل" الذى مورس أمام الأقسام ومحاولات اقتحام السجون؟ أم العنف الذى مورس بإحراق مقرات الحزب الوطنى ثم إحراق الأوراق الهامة داخل تلك الأماكن؟ أم عنف السلب والنهب الذى أعقب انسحاب رجال الشرطة؟
أتخيل لو أن يوم 25 يناير بدأ بالعنف أمام الأقسام من أجل إحراقها واقتحامها، لأفضى بنا هذا السيناريو إلى فشل محقق. أعتقد أنه فى أفضل الأحوال كان سيصنف عند السلطة (والشعب أيضاً) كـ"انتفاضة حرامية" جديدة، وكان عنف الدولة سيكون مبرراً أمام الشعب، ولكان نزول القوات المسلحة لدعم الداخلية بالسلاح شرعياً ومؤيداً من الشعب أيضاً، وكان المتظاهرون ساعتها سيفقدون أهم عنصر لإنجاح أى ثورة.. وهو الظهير الشعبى لهذه الثورة. إذ يجب أن يعترف هؤلاء أن سلمية الثورة وسلمية "شباب 25 الطاهر" هى التى خلقت الظهير الشعبى للثورة وليس أعمال العنف.
(6)
أما إذا تحدثنا عن مشهد العنف اليوم، أخشى أن الثورة باتت "فئوية" من حيث المشاركين فيها، وصار الثوار يرون أنفسهم ثواراً بعدد زجاجات المولوتوف التى يلقونها على قوات الشرطة، وبعدد مقرات الحرية والعدالة التى يحرقونها، وباتت نوستالجيا 28 يناير تسيطر على عقول من يقفون عند الاتحادية الآن وفى كثير من الميادين، وهذا خطر داهم، سيعيد الثورة غريبة كما بدأت غريبة. فهل سيدرك الثوار هذه الحقيقة؟
لذلك أمامنا طريقان للتعامل مع الداخلية. الأول: استغلال حوادث السحل والتعذيب بالضغط إعلامياً وشعبياً وسياسياً وميدانياً لتطهير الداخلية، فنحقق هذا المطلب الصعب ولو بعد حين، كما فعلنا فى حملة "كاذبون" ضد العسكر، والثانى: الهجوم على الداخلية والاعتداء على مديريات الأمن والأقسام وإحراق مزيد من المنشآت، فتنقلب الآية ويتحول ظهيرنا الشعبى إلى دعم جماهيرى غير مشروط للداخلية ولممارساتها القمعية وللسلطة. الخيار لنا.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
أحمد سعد
مقال رائع