طير الأبابيل.. قصة جديدة للكاتب شريف عبد المجيد

الأحد، 03 فبراير 2013 03:31 ص
طير الأبابيل.. قصة جديدة للكاتب شريف عبد المجيد شريف عبد المجيد

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
- أنت مطلوب للتحقيق
- أنا لم أرتكب ظلما.. أنا لم ألوث ماء النهر!
- أنت مطلوب للتحقيق
- أنا لم أسرق.. أنا لم أنهب!
- أنت مطلوب للتحقيق
- أنا لم أقتل طفلا.. ولم أقتل امرأة، ولا شيخا عجوزا قتلت!
- أنت مطلوب للتحقيق.. وادعاؤك الجنون لن يجدى نفعا!
ثم أغلق السماعة فى وجهى! هكذا صحوت من نومى بعد رنين جرس التليفون المتواصل، خفت أن تصحو فتاتى الصغيرة وأمها: فى العادة يحدثوننى فى الموبايل، ولكن فى هذه المرة كلمونى على تليفون المنزل. بداية غريبة ليوم غير تقليدى فى حياتى، تعثرت قدماى وأنا أبحث عما أرتديه فى قدمى؛ عادة ما يحدث هذا فيما أراه من أحلام وكوابيس، وبعدما تتشبع عروقى وجسدى وقلبى بالخوف، أصحو من نومى على صوت صراخ مكتوم، صراخ بكل ما أملكه من قوة، لكنه لا يخرج أبدا كيف أدرك أن ذلك حلما وليس حقيقة.. أتمنى ألا تكون حقيقة!
هكذ ارتديت ملابسى على عجل ووجدتنى بعد ذلك فى الطريق مهرولا! هل سلمت عليهم فى البيت؟ هل استيقظا؟ هل كنت نائما فى بيتى؟!
ولكن إذا لم يكن ذلك بيتى، فكيف عرفوا رقم المكان الذى كنت به، إذا لم يكن ذلك حلما، فعلى أن أكون متماسكا وأكثر قوة: أعرف ما يستخدمونه من تكنيكات مختلفة لتحطيم الأعصاب واستخلاص ما يريدونه من معلومات.

تذكرت الآن قصة السيدة التى كانت تعمل فى إدارة قريبة، ولم ترض أن تشاركهم فى السرقات، وكيف جعلوها توقع على أوراق بيضاء ثم كتبوا فى تلك الأوراق إيصالات أمانة بمبالغ طائلة، ورفعوا عليها قضايا فى عشر محافظات، ولما استسلمت لهم واستقالت، بل ودفعت لهم مبالغ مالية وتنازلت عن مكافأة نهاية الخدمة، وبعد حوالى أربعة أشهر- كانت تأتى فى ميعاد الانصراف وتسب لهم جميعا بصوت عالٍ وترفع صوتها؛ تلك السيدة الراقية التى لم أسمع لها صوتا أبدا، وبعد ذلك بدأت تجرى وراءهم قبل أن تصل عربة الشركة التى يرجعون بها لبيوتهم، وسمعت بعد ذلك أنها دخلت مستشفى الأمراض العقلية، وظلت هناك لمدة ثلاث سنوات، وبعدها لم أعد أسمع عنها شيئا.
هكذا وجدتنى فى أحد الشوارع التى تشبه الشوارع التى أمر بها يوميا، كانت هناك مشاجرة كبيرة رفع أحدهم مديته على الآخر، حاولت أن ابتعد عنهما، رجعت قليلا للوراء، لكن الذى يمسك السلاح الأبيض، كان قد أصاب الشخص الأعزل فى يديه، صرخ بشدة وتألم، حاولت أن اقترب لكنه فجأة كان قد أخرج مسدسا صغيرا كان مخبأ تحت قميصه فوق بنطاله الجينز القديم، أفرغ ثلاث رصاصات فى جسد صاحب الميدية، كنت أقف مشدوها غير مصدق، تعالى صرخ النسوة فى الشبابيك وجرى الجالسون على المقهى، ودخل كل صاحب كل متجر داخل متجره، أما السيارات التى كانت متوقفة تراقب الموقف كانت قد تحركت بسرعة، وكأنها تهرب من الجزام، لم يبق سواى أنا والجثة وصاحب المسدس الذى أطلق رصاصتين فى الهواء، فدخل الجميع إلى بيوتهم، فكرت أن أهرب بأقصى سرعة، لكنه اقترب منى والدم يسيل من يده.
- أنا لسه معايا رصاصة، بس مش هاقتلك.
- شكرا.
- اربط لى دراعى.
- حاضر.. فكرت سريعا كيف أربط ذراعه، وليس معى أى شىء، كما أننى أكره شكل الدم.
لاحظ ارتباكى.
- روح الصيدلية اللى فى وشك دى، وقولهم يجبولك قطن وشاش وهات من القهوة بن وشوية ميه أشرب بسرعة.
فعلت ذلك بدافع إنسانى محض، فعندما بعدت عنه كان بإمكانى أن أجرى بأقصى سرعة، ولكن ثقتى الكبيرة فى أن ذلك مجرد حلم سخيف جعلتنى أتعامل مع الأمر ببساطة.
كلما اقتربت من الصيدلية، كان صراخ طفلتى يتعالى، كيف لى أن أسمعه من هذا المكان البعيد عن المنزل؟ دخلت الصيدلية، طلبت منه "بامبرز" رقم واحد، ضحك وقال هل لديك طفل أم طفلة؟
أخبرته أن ذلك لن يجعل الأمر مختلفا.
ألح على فى السؤال.
قلت له لماذا تتدخل فيما لا يعنيك.
قال كلاما كثيرا عن عصبيتى الزائدة وصوتى العالى، وأنه لولا أنى أول من دخل عليه فى هذا الصباح الباكر لما باع لى شيئا، لم أدر بنفسى إلا وأنا أخنقه، لم أتركه إلا جثة هامدة، ذكرنى بجارى المتطفل الذى يسألنى دائما عن أحوالى وعن أخبارى ورأيى الخاص فى كل الأحداث من أول إصلاح الأسانسير ومدخل العمارة حتى ما يستجد فى الشارع، وما أدليت به بصوتى فى الانتخابات. لقد أصبحت الآن قاتلا، على أن أهرب الآن من هذا المكان بسرعة.
لقد خرجت من شارع جانبى وسمعت الشخص الذى يحمل المسدس وهو يتوعدنى بأنه سيفتك بى فى المرة القادمة، ولكن كيف سيقابلنى؟ إنه مسكين، لا بل هو مجنون ومسكين ومصاب وقاتل أيضا، ولكننى أنا أيضا قاتل، ولكن عزائى الوحيد أننى غير محترف، ولكن هل أنا فعلا قتلته أم هُيأ لى، وربما كان كل ذلك مجرد هذيان فى كابوس، ولكن كيف لى أن أخرج من الكابوس، سأنتظر وأرى، الطريق مزدحم ملىء بالعربات، أصوات الكلاكسات تصيبنى بالجنون والأغانى الصادرة من المحلات المتناثرة مزعجة جدا، أما عربات التوك توك فهى تشغل أغانى لا أفهم منها شيئا.
كيف سأصل لمكان عملى إذن لقد نسيت أن أسأل التحقيقات فى أى دور بالتحديد توجد الشئون القانونية، لا يهم، المهم وصولى فى الوقت المناسب للعمل، وبعد أن أوقع فى دفتر الحضور الكبير سأوقع فى دفتر الحضور الصغير وسأوقع إلكترونيا، وربما سأفتعل مشكلة ما لأى سبب حتى يتحدث معى رجال الأمن على مدخل الشركة وبذلك أثبت أننى حضرت للعمل فى هذا اليوم، لن أتركهم يتلاعبون بى بعد الآن، سأتأكد من كل ما يدور حولى، سأكون يقظا فضرباتهم سريعة متلاحقة تأتيك بشكل مفاجئ وغير متوقع، إنهم يضحكون فى وجهك، ولكن ربما يدسون لك السم فى المشروب الذى تشربه أو يسرطنون لك ما تأكله، لقد اختفى بعض الصحفيين ولم يعودا أبدا، وقتل ناس وهم يمرون بالطرق بل وهم ينظرون من شبابيك بيوتهم وبدا الأمر أنه مجرد صدفة، وهناك من تقتله عربة ما وفى التحقيقات يمرر الأمر على أنه حادث عابر تسببت فيه عربة طائشة، يحاصر بعض الناس شركتنا منذ شهور مطالبين بأشياء لا أتذكرها، فبعدما حاصروا المحاكم والنيابات ووسائل الإعلام صار ذلك تقليدا متبعا كلما اشتكى بعض الأفراد من شىء ما يحاصرونه ومع مرور الوقت لم أعد أسأل لماذا يحاصر بعض الأشخاص بعض الأماكن ولهذا لا أعرف لماذا يحاصر الناس شركتنا، تلك الشركة الرائدة التى كانت ملكا للقطاع العام وكانت أكبر شركة لتسويق منتجات نصنعها فى مصانع الشركة التى تعلب ما نزرعه فى مزارع الشركة، وبعد ذلك أصبحت من شركات قطاع الأعمال وتم بيع المزارع ثم تم استيراد ما تصنعه المصانع، وهكذا صارت الشركة تقريبا ليس لها عمل فعلى وصارت الشركة تشترى من المزارع الخاصة المنتج وتحاول تسويقه وتحارب المصانع التى كانت تابعة لها، أما ما يحدث فى مخازن الشركة فهو شىء يشبه ما يحدث فى أفلام الخيال العلمى، فالمنتج المتراكم من سنوات طويلة ويحسب هذا المخزون فى حسابات الأرباح، ويعد فى الأصل خسارة وعبئًا على الشركة، لقد تكلمت فى ذلك الموضوع مع أحد زملائى فى العمل، فهل يمكن أن تكون كاميرات المراقبة سجلت آرائى، واعتبرونى مخالفا لسياساتهم، ومنذ تلك اللحظة انقلبت حياتى رأسا على عقب، لقد نشرت أخيرا الجريدة الرسمية أخبار التحقيق مع "ست" ولماذا قطع أخاه "أزوريس" إلى أربع عشرة قطعة قسمها فى ربوع المحروسة وما هى أنواع السحر الذى استخدمته "إيزيس" لتنجب "حورس" من زوجها المتوفى بعد إعادته للحياة بالفعل، ففى بدلنا العزيز مهما تأخرت الحقيقة لا بد لها أن تنكشف لقد تم تشكيل لجنة تقصى حقائق فى الأسرة الرابعة عشر، وها هى النتيجة تظهر الآن فعلا لا يضيع حق وراؤه مطالب، لاحظ الشخص الذى يسير أمامى وهو يقرأ هذا الخبر اهتمامى بما يقرؤه، لذا قفل الجريدة، سوف أشتريها عند عودتى لعملى، وأتعرف كيف سار عمل اللجنة، وما هو العقاب المتوقع لـ"ست" خاصة أنه مات منذ ما يقرب من أربعة آلاف عام، الزحام شديد ومداخل الشوارع كلها مزدحمة الحمد لله أننى تعلمت العوم فى الفترة الأخيرة، مضطر أن أقفز الآن فى نهر النيل، لقد أصبحت هذه هى الوسيلة الأسرع للوصول لعملى: أن أسبح فى النيل؛ فلن أستطيع أن أنتظر وسائل المواصلات المعتادة من مناطيد وتليفريك ومترو، أما وسائل الانتقال المائى فهى سهلة جدا: إما بركوب السفن النهرية السريعة أو المركب الصغيرة التى تسير بك من أربع لست محطات مائية، الفرق ليس فى السعر فقط، ولكن أيضا فى أن السفن بها مطاعم وكافتيرات صغيرة يمكن أن تحتسى فيها مشروبك المفضل قبل الوصول للمكان الذى تريده، أما أنا ففى الأوقات الصعبة استخدم العوم كبديل سريع عن المشى كل أملى الآن أن أجد بامبرز مقاس واحد لطفلتى الصغيرة بعد عودتى من العمل، أو بالأحرى بعد عودتى من التحقيق. من الممكن الآن أن يكون قد دخل أحدهم إلى الصيدلية، وعندما يضع الروشتة على الزجاج الأمامى، الذى يقف خلفه الدكتور وربما لم يكن دكتورا، الذى يقف خلفه البائع سيشعر بأن لا أحد يجيبه، وعندما ستطول وقفته، سينادى، سيبدأ فى النظر أسفل قدميه، سيجد الجثة ملقاة أسفل الزجاج وربما لن يجدها، ولكن بفرض أنه وجدها من الممكن أن يصرخ: قتيل! قتيل! وربما يجرى وربما سيشعر بالضجر من وقفته الطويلة ويغادر المكان دون أن يكتشف الجثة، ولكن حتى لو لم يكتشفها سيكتشفها أحدهم إن عاجلا أو آجلا، ولكن مهما بحثوا لن يربطوا بينى وبين القتيل، فأنا لست من سكان المنطقة، وهذه المرة الأولى التى أتواجد فيها فى ذلك الشارع، وكذلك لا توجد أى عداوة بينى وبين الصيدلى أو البائع، فكيف سيعرفوننى؟ هل شاهدنى أحد وأنا خارج من الصيدلية؟ لقد تذكرت الآن، لم يشاهدنى أحد سأتصرف بشكل طبيعى ولن يصلوا لى، وبما أن القتيل يتدخل فيما لا يعنيه، فربما سيكتشفون أن له أعداء كثيرين. لقد وصلت الآن لمقر العمل، دخلت الباب مسرعا بينما رجلى الأمن على باب الدخول ينظران لى نظرات غريبة رغم أنهما دائما يفعلان ذلك، إلا أن نظرتهما اليوم أكثر غرابة عن ذى قبل. كان صوت الرئيس يملأ المكان،، يقرأ خطابا تاريخيا مؤثرا كما قال، الكل يتحرك فى جميع الاتجاهات سألت شخصا يقف أمامى عند كشف الحضور الأليكترونى وسألته فى أى دور تقع الشئون القانونية، نظر لى مستغربا وقال لا تتحدث والرئيس يتكلم
ولكن أنا لم أسمع ما يقول من كثرة السماعات التى تردد الخطاب.
نظر لى بطرف عينيه وتركنى ومشى. اقترب منى أحد رجال الأمن السريين، هكذا عرف نفسه لى وقال فى الدور الثامن اِذهب فهم فى انتظارك.
حاولت أن أساله عن سبب التحقيق، لكنه ابتعد عنى مسرعا، تحركت مسرعا ناحية المصعد وانتظرت دورى حتى صعدت للدور الثامن وجدتهم يلقون بأحد الموظفين من الشرفة بينما كان يجلد البعض الآخر. أعطونى رقما كما فى البنوك وكانت هناك شاشة ديجتل كبيرة بها رقم مكتوب باللون الأحمر عليه رقم الشخص الذى يحقق معه الآن، دخلت قاعة الانتظار كان الشخص الذى يقدم الشاى والقهوة هو نفسه الذى هددنى بالقتل فى الصباح، لم أطلب منه شيئا كان دائما يختلس نظرات سريعة موجهة لى، ويضحك ضحكات مكتومة ينتفض لها جسده ويعلو كتفه من شدة الضحك.

وضع أمامى كوبا من الشاى ومضى، ظهر رقمى على الشاشة الديجتال.
الممرات طويلة جدا بعكس الدخول السهل لحجرة الانتظار، كان الخروج منها صعبا جدا، وجدت صوتًا ضخمًا صادرًا من سماعات كبيرة:
- سندعو الزبانية.
سرى الرعب فى أوصالى، ولم أعد أفهم شيئا
- ما الذى يحدث لى بالضبط؟
- سندعو الزبانية!
كل ما كنت أرجوه يا ربى هو الحصول على بامبرز مقاس واحد لطفلتى الصغيرة. كيف سينتهى هذا الكابوس، لابد أنه كابوس، لا يمكن أن يكون ما يحدث حولى حقيقة.
- سندعو الزبانية!
صرت أجرى بكل قوتى فى الممرات الطويلة؛ لقد تأخرت عن موعد التحقيق. هل هذا هو هدفهم؟ أن يثبتوا غيابى ويحكموا على دون حتى سماع أقوالى. وصلت أخيرا لباب حجرة المحقق، جلست على الكرسى أستريح قليلا، بينما كان هو يعطينى ظهره ويجرى مكاملة بصوت خفيض، وجدت الرجل الذى هددنى بالمسدس يضع كوب الشاى الذى تركته فى غرفة الانتظار أمامى ثم انصرف. أدار المحقق كرسيه بعدما أغلق التليفون، واكتشفت أنه هو الصيدلى أو البائع الذى كان فى الصيدلية. كيف حدث ذلك؟ ضحك بصوت عال حتى ارتج المكان، اهتزت الأوراق أمامه:
- ليس أمامك فرصة للكذب، أخبرنا بكل شىء، فنحن نعرف عنك أكثر مما تعرفه عن نفسك.
- لم أعرف بماذا أجيبه، كنت خائفا ويتصبب العرق منى.
- لو تركت الوظيفة مرفوتا فلن يقبل أحد بتشغيلك، سيكون ملفك مخزيًا، فكل شىء ثابت عليك بالأوراق الرسمية.
- ولكنى لم أفعل شيئا على الإطلاق.
لا تناور ولا تكذب. واجه نفسك بالحقيقة.
- لم أفعل شيئا سوى أننى قتلتك قبل مجيئى إلى هنا حتى أصل فى ميعادى وأنت تعرف أنك فضولى وسألتنى أسئلة ليست من حقك.
يضحك ويضحك ويضحك حتى أننى ظننت أنه سيموت من شدة الضحك:
- بدون وظيفتك التى عملت بها لمدة خمسة عشر عاما أنت لاشيء، نحن نستطيع الضغط عليك بوسائل لن تخطر على عقلك نستطيع أن نجعلك المتهم الرئيسى فى تسرب بقعة الزيت إلى نهر النيل، وربما نتهمك بمسئوليتك عن قتل المتظاهرين وربما أشياء أخرى لا تخطر على بالك وأنت تعرف ماذا نريد منك.
- إننى لا أعرف شيئا سوى أننى محول للتحقيق. ومن ارتباكى اصطدمت يداى بكوب الشاى الذى وقع على الأرض وتناثر زجاجه فى المكان، بينما الشاى وقع على ملفات وأوراق المحقق.

- تفعل دائما كما يفعلون تظن أنك ستقاوم وأنك ستغير العالم، بينما أنت مجرد مسكين مربوط بلقمة عيشك ولا تستطيع أن تؤمن ثمن البامبرز لطفلتك لآخر الشهر. أمثالك هم أكثر من يتعبوننا. قال ذلك وهو يجفف أوراقه من الشاى المراق على أوراقه.
- ولكن كل ما كنت أطالب به هو لصالح الوطن.

- وهل يعرف أمثالك صالح الوطن؛ الوطن دائما يحتاج لمن يرعى مصالحه ويراقب السفهاء ويردع أعداءه، أترى ماذا فعلت لقد أوقعت الشاى من خوفك، فهل تستطيع أنت أن تعرف صالح الوطن؟!
- لست خائفا، فأنت مجرد صيدلى، وليس من حقك أن تجرى معى أى تحقيقات، أريد محاميا للدفاع عنى وأريد أن يصل صوتى للإعلام وللشرفاء الذين لن يرضيهم ما يحدث معى من إهانات. قلت ذلك وأنا ألملم الزجاج المنثور على الأرض.
- أنا الصيدلى والضابط، أنا الطريق والمنتهى، أنا كرسى العرش وعضو البرلمان، أنا خلاصك وأمنك، أنا القاضى والمحامى والجلاد ومنفذ الأحكام.
- ذلك ما تتصوره أنت، وذلك مخالف لكل القوانين والتشريعات.
يضحك بشدة: بعد رفتك من العمل سنطبق عليك القانون وتحول للنيابة الإدارية ثم تحول للجنايات بتهمة قتلى، ولدينا الشهود كما تعرف العقوبة لن تقل عن عشرين عاما.
- ولكنك حى ترزق.
- المهم النية لقد شرعت فى قتلى.
وبينما هو يقول ذلك كنت قد أمسكت بجزء من زجاج الكوب المكسور وانقضضت عليه، مادمت سوف أعاقب على قتلك فسأفعل ذلك الآن حتى أستحق العقوبة ومررت بالزجاجة على رقبته، أخذ جسده ينتفض والدم يخرج من رقبته كنافورة مياه يخرج منها دم أحمر قانى ساخن يغطى الملفات ويختلط مع لون الشاى البنى الغامق، وبينما أتى الرجل الذى هددنى بالمسدس ومعه مجموعة كبيرة من الناس يجرون مسرعين وصوت أقدامهم يضرب الأرض بقوة وهو ما يؤكد أنهم كانوا يشاهدوننى عبر كاميرات معلقة فى المكان، قمت بغلق الباب من الداخل ثم قفزت من الدور الثامن على مياه النيل؛ فالمكتب يطل مباشرة على النهر العظيم، كنت محاطا بطير أبابيل تستعد لرمى حجارتها على المدينة، ولأول مرة أرى القفص الحديدى الكبير الذى يحيط بالمدينة من كل جانب، هل كنت أعيش فى ذلك السجن كل هذا العمر وأنا لا أعرف هل سأموت واقعًا على أسفلت الطريق؟ لأن السحاب وحركة الرياح يمكن أن تقذف بى بعيدا عن مياه النيل، هل سيتذكرنى أحد؟ هل فعلا ذبحت الصيدلى/ المحقق الذى مات مرتين حتى هذة اللحظة؟ قذفت الطيور الحجارة على العربات والناس وكل ما يتحرك بالأسفل، وتحول لون السحاب من الأزرق إلى الرمادى الغامق بينما الأشجار تصعد إلى أعلى فى حركة تشبه حركات راقصى الباليه، ينفجر كل شىء من حولى ويعلو الصراخ، بينما جسدى يقترب من الأرض سريعا! هل سأموت عندما يرتطم جسدى بالأرض، أم سأموت بحجارة الطير، أم أن ذلك كله لا يعدو إلا أن يكون كابوسا لا أعرف حتى الآن كيف سأخرج منه.
------------------------------------
- لقد وقع لنا العقد بأجر أقل كثيرا عما توقعت أن يطلبه.
هكذا يحلم كل المؤلفين بأن تحول أعمالهم للسينما ولا تنس أننى سأكتب السيناريو، ولن أستعين بأحد، ففى كل الأفلام التى أخرجتها من قبل لم أشتر قصة من أحد. كل أعمالى هى أفكارى السينمائية.
- نعم ولكنك طلبت هذه القصة بنفسك وأصررت على ذلك.
- الأفكار يا عزيزى ملقاة على قارعة الطريق، وقلت لما لا أجرب أن أتعاون مع مؤلف جديد مثل ذلك المؤلف.
- لولا موافقة البطل على القصة لما أتعبت نفسى مع هؤلاء المؤلفين المجانين.
- الفضل فى نجاح كل أعمالى يرجع إلى إنتاجك السخى.
- ولكن القصة لا يوجد بها أى أدوار نسائية.
- سأستعين بالخطوط الرئيسة فقط فى القصة، والباقى هو من صميم عملى ككاتب سيناريو ومخرج.
- ولكن إذا كان المؤلف موجودًا لم نستزيد فى جزء جديد عن زوجة بطل القصة؛ ربما أضاف شيئا جديدا، وإذا لم يعجبك استغن عنه.
- كما تريد دعنى أنا أكلمه فى ذلك، سأعرف كيف أستخرج منه كل ما يكمله من حكى.
- لك ذلك.
-------------------------------
تك تك تك تك
دقات الساعة الملعونة هى نداء لكل ما يضغط على حياتى، أنا امرأة فى منتصف العمر، تزوجت قبل أن يفوتنى قطار الزواج من موظف كان مستقبله زاهرا، وعند النقطة التى يفقز بعدها الناس لأعلى وينتقلون من طبقة لأخرى، ومن حال لحال، لا أعرف ماذا أصابه، وكأن عطلا مفاجئا أصاب سيارتك وأنت فى منتصف الطريق الصحراوى، فلا أنت فى نفس المدينة، ولا أنت وصلت لمبتغاك.
تك تك تك تك
سوف يصحو ككل يوم منذ زواجنا تقريبا فى نفس الميعاد يبحث عن شراباته وحذائه، ظننت أنه ربما يسأل عن الزر المقطوع أو الشاى الذى برد بعد أن ينهى صلاته، وربما عن تأخره عن موعد العمل، وسيدور نفس الحوار بنفس الطريقة عن غلاء الأسعار، وعن الحياة الصعبة، عن فرص الترقى الضائعة، وعن المواهب الأخرى التى تصل بزملائه للمناصب العليا، ولكنه لا يستطيع تملق رؤسائه، ولا يستطيع أن يسرق أو يحتال.
وأقول له الحمد لله، نحن أفضل من غيرنا.
فينزل مسرعا، بينما أبكى أنا على حالنا وعلى ضياع الفرص وعلى الشعيرات البيضاء التى بدأت تغزو رأسى فى الآونة الأخيرة.
تك تك تك تك
بالأمس عندما خلع أحد ضروسه، كان يبكى بحرقة؛ وكأنه فقد شخصا عزيزا.
كان يدرك أن العمر يمر فى أنحاء ظهره وفى مقاس النظر الذى ينبئ عن تدهور نظره وعن تغييره للنظارة.
تك تك تك تك
حلمنا بشقة المصيف، ولكننا بعناها لشراء سيارة صارت الآن قديمة جدا،وأعطالها لا تنتهى. حاولنا أن نجعل حياتنا تبدو أفضل أو أرقى، ولكن كل منا يدرك أننا صرنا نتهاوى، وربما نصل لحد الفقر فى غضون سنوات قصيرة قادمة.
تك تك تك تك
جاءت طفلتنا الأولى بعد أن ظن كل مننا أننا لن نرزق بأطفال بعد عمليات التسقيط والذهاب لسنوات طويلة لدى الأطباء الذين يدلى كل منهم برأى مختلف، وكأننا حقل تجارب.

تك تك تك تك

حصلت على إجازة وضع، فنقص دخلنا، وصار هو كالمجنون يفكر كل يوم فى تأمين تعليم جيد وحياة أفضل لطفلتنا الصغيرة، كان يقول نحن أبناء الشقاء الدائم. يجب أن تعيش هى بشكل أفضل مما قاساه كل منا.
تك تك تك تك
صوت المنبه لا يتوقف. العمر يتسرب كما تتسرب الرمال من الساعة الرملية. لا شىء يرجع للوراء، ولا أمل يلوح فى نهاية النفق: الحياة الورطة الكبيرة التى ندخلها بغير إرادتنا.
------------------------------
- ما رأيك؟
- أظن أن ما كتبه تقليدى جدا، ولكن يمكن عمل قطع متوازٍ بين حياة زوجته وحياته، ويمكن أن نضيف مشاهد كثيرة عن كيفية تعرفها وعن الأحلام التى حلموا بها وعن الخيبات التى تعرضوا لها.
- لا أحب الميلورداما، ولكن لا بأس من صنع فيلم يشبه حياة الناس كل فترة.
- دائما تعجبنى طريقة تفكيرك.
- الخسارة فى هذه الأفلام هو ما تعطى شرعية لكل الأفلام الأخرى التى ننتجها وتجعل النقاد متعاطفين معنا.
- ما رأيك لو ضغطت أكثر لنرى ماذا لو كان الذى يحدث له ليس حلما، وبعد انتهاء التحقيق معه تم تحويله للمحكمة!
- كما تريد وإذا رفض سأعطيه مبلغًا بسيطًا كحافز للعمل.
- لن يطلب مالا. أعرف ذلك من تركيبته الشخصية.
- نعم فهو يعمل من أجل الفن!!!!!!!
- بعد أن ينتهى من الضحك يجيب.
- أظن ذلك.
--------------------------------------

لم تكن نهاية العالم كما ظننت، ولا أعرف كيف نجوت من الطير الأبابيل ومن سقوطى من الدور الثامن، كل ما أعرفه أننى الآن فى قاعة المحكمة!
أقف خلف القضبان مقيد فى القفص بينما أمامى عسكرى، يدخل حاجب المحكمة، وهو يشبه بالضبط الصيدلى والمحقق، وربما كان هو ليس هذا. ما زاد من دهشتى ولكننى وجدت هيئة المحكمة الموقرة مشكلة من الصيدلى ومن الرجل الذى هددنى بالمسدس ليس هذا فحسب؛ فالجمهور الجالس فى المحكمة والقاضى ومحامى الادعاء والمحامى المنتدب للدفاع عنى- هم أيضا نفس الشخصين.
لا أعرف ما هى تهمتى؛ فأصواتهم تبدو بعيدة، وكأن القفص الذى يحتوينى مصنوع من الزجاح. أراهم يضحكون حتى يكاد كل واحد منهم أن يقع من كرسيه، وأنا لا أفهم شيئا، اقتربت من العسكرى لأشكو له أو حتى ليفك قيودى، ولكننى اكتشفت أنه أيضا هو نفسه الرجل الذى هددنى بالمسدس.
كنت أريد الصراخ بأعلى صوتى، ولكن صوتى لم يخرج من حلقى، وكأن الصرخة قد ارتدت للداخل نارا متوهجة تجرى فى عروقى وشرايينى، والدنيا تدور بى. لابد أنها النهاية وسمعت القاضى يقول فى نهاية الجلسة تحول أوراقه للمفتى. رفعت الجلسة!
-------------------------
- ما كتبه لا بأس به.
- أظن الآن يمكنك أن تبدأ فى العمل.
- بالطبع، كل شىء كما أريده تماما.
وقبل أن يكملا كلامهما دخل عليهما شخص ملثم يتوقع الكثيرون أنه ربما يكون المؤلف، وربما يكون منتجًا آخر على خلاف مع هذا المنتج، وأطلق على كل منهما ثلاث رصاصات تسعة مللى من مسدس محلى الصنع كما قالت التحقيقات التى لم تنته حتى الآن، ويرجح أن القتل كان بدافع الانتقام، وليس بدافع السرقة.






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة