البراء أشرف

استراحة

الأحد، 03 فبراير 2013 11:10 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
سأحكى لك حكاية لا علاقة لها بالسياسة.. وستكتشف، فى النهاية، كيف أن الحكايات كلها سياسة، تماماً كما اكتشفت كيف أن السياسة ما هى– فى جوهرها– إلا مجموعة من الحكايات.

والحكاية، عنى، وعن دخولى المتكرر للسينما، أحبها، وهى فى صميم عملى كمخرج ومنتج للأفلام والبرامج.

جرت العادة، أن أهمس لصديقى الجالس بجوارى فى منتصف مشهد مهم فى الفيلم الذى نشاهده، أهمس قائلاً: "استراحة".. ثم لا يخيب ظنى أبداً، فتظهر شاشة حمراء، عليها كلمة "استراحة" بعد أقل من نصف دقيقة، وفور أن ينتهى المشهد ينظر لى صديقى مندهشاً، كيف علمت أن الاستراحة ستكون الآن.. وبهذه الدقة.. أبتسم أنا ابتسامة الواثق من نفسه، مما يجعله يعتقد أننى شاهدت هذا الفيلم مرة قبل ذلك دون أن أخبره.. وفى الواقع، فإننى نادراً ما أشاهد فيلماً واحداً مرتين.. فكيف إذن؟

الخلاصة، أنك بقليل من التركيز، يمكنك أن تعلم تحديداً لحظة "الاستراحة" فى الفيلم الذى تشاهده.. ترى مشهداً مهماً، يلخص ذروة العقدة الدرامية التى يطرحها الفيلم.. ذروة الحدث، ذروة الأزمة.. وتكون وقتها كمشاهد، فى حاجة إلى عدة دقائق، لتلتقط أنفاسك، وتخرج من باب القاعة لشراء الفيشار، وتفرد جسدك قليلاً، وتفكر، كيف يا ترى سيعالج بطل الفيلم أزمته؟، وكيف سيجد الخلاص؟.

بمرور الوقت، ستلاحظ أيضاً، كيف أن جودة الصورة فى المشهد قبل الاستراحة تبدو مختلفة.. الصوت يصبح أقل نقاءً.. والصورة تهتز قليلاً، وتميل ألوانها إلى السواد.. يرتبك المشهد كله، ويصبح من الصعب استكمال الفيلم بهذه الطريقة.. فتظهر كلمة "استراحة" لتفصلك على الخيال قليلاً، وتعطيك بعض الطمأنينة، بأن جودة الصورة والصوت ستعود إلى ما كانت عليه.. لكن بعد دقائق.

فى الاستراحة نفسها، فرصة رائعة للتعرف على رفاقك فى قاعة العرض، خاصة هؤلاء الذين دخلوها متأخراً، بعد بداية الفيلم بمشهد أو مشهدين.. لم تشعر بوجودهم، ربما لم تتمكن من معرفة هويتهم بسبب الظلام.. ستراهم حين تضاء أنوار القاعة، وربما تكتشف أن بينهم من تربطك به علاقة.. أحدهم قد يكون صديقاً كنت تتمنى لقاءه.. وأحدهم قد يكون عدواً، كنت تتحاشاه، وها هى الصدفة وحدها تجعله يجلس بجوارك، ويشاهد معك نفس الفيلم.

فى الاستراحة أيضاً، لحظة ملائمة للحكم على جودة الفيلم، إن كنت من الذين يذهبون عادة إلى دورات المياة خلال استراحات الأفلام، فلعلك تلاحظ الحوار بين الموجودين هناك من رفاق قاعتك والقاعات الأخرى.. حوار يبدأ بكلمة "حلو الفيلم؟؟".. وينتهى بإجابة مقتضبة، من نوعية "ظريف"، "لطيف"، "مش بطال"، "ممل"، ثم ينسحب أبطال الحوار فجأة، وقرارهم أن الحكم على الفيلم يكون عادة بعد مشاهدته كله، فالقاعدة السينمائية تؤكد أن الحكم على فيلم لم تشاهد إلا نصفه فقط، حكم باطل على أى حال.

هواة الثرثرة، يقفون على بوابة القاعة، ويدخلون فى حوار أطول.. حوار يضع تخمينات للشكل الذى سيتصرف به البطل، يتوقعون النهاية والأحداث، هؤلاء، عادة، يفقدون تدريجياً استمتاعهم بالمشاهدة، هؤلاء مشاهدون غير مخلصين للسينما، وسيتوقفون قريباً، عن الحضور للسينما والمشاهدة، وسيكتفون بمشاهدتها – لاحقاً - على شاشات التليفزيون، ويستسلمون لملل الإعلانات.

هذا ليس مقالاً سينمائياً بالتأكيد، أثق بك، وأعلم أنك فهمت المغزى من كل ما سبق، المشهد الذى نعيشه الآن، مشهد مهتز، جودة الصوت والصورة به ليست على ما يرام.. وأنت تعبت من المشاهدة، وأعصابك لم تعد تحتمل مزيداً من الإثارة والتشويق.

عزيزى، أنت، وأنا، هم أيضاً، كلنا، فى حاجة إلى استراحة من كل ما يجرى.. بعضنا يشعر بالجوع، وسيشترى "فيشار"، بعضنا يريد أحكاماً فورية على "الفيلم" كله، وبعضنا فى حاجة لإجراء حوار نقدى، حول ما يتوقع حدوثه فى المشاهد التالية.

والفيلم الذى نشاهده طويل وغير معتاد، مخرجه لم يستجب لرغبات الجمهور، وأبطاله متنوعون، بعضهم من نجوم الصف الأول، وبعضهم من الكومبارس.. فيلم، تلعب فيه "المجاميع"– على ما يبدو- دور البطولة وحدها.. والمشاهد المصرى اعتاد طرح سؤال واحد يرغب فى إجابة واضحة عليه، بطل الفيلم.. طيب، أم شرير؟.. مشاهد لا تعنيه الفلسفة، ولا الصراع الداخلى فى شخصية البطل، هو فى النهاية، يريد فيلماً بسيطاً واضحاً، بحكاية مفهومة ومنطقية، بحيث يتمكن من حكيه لأصدقائه على المقهى، أو لأمه على الكنبة.

فهل نطمع، من السادة منتجى الفيلم، أن يمنوا علينا باستراحة قصيرة، نلتقط فيها أنفاسنا، ونفكر فى المشاهد السابقة، ونجهز أنفسنا للمشاهد الأخيرة.. استراحة قصيرة.. وسنعود بعدها إلى القاعة، لاستكمال المشاهدة.. وربما يختار بعضنا الرحيل، دون استكماله، مؤكداً أنه فيلم سىء لدرجة يستحيل معها إضاعة المزيد من الوقت لمشاهدة ما تبقى منه.

والفيلم إنتاج مشترك بين الدولة والقطاع الخاص، وتبقى جزءا من ميزانية إنتاجه يدفعها الجمهور، أبطال الفيلم من نجوم الشباك تقاضوا أجرهم بالكامل حتى انتهت الميزانية، وقد وعد المنتج "الكومبارس" و"المجاميع"، بأن يدفع لهم "حقهم"، فور عرض الفيلم وتحصيل التذاكر، وقد قبلت الجماهير ذلك مضطرة، رغم أن إنتاج الفيلم مر بمراحل طويلة امتدت إلى عامين أو أكثر.. استراحة.. نرجوكم.. قبل أن نضطر إلى فرض استراحتنا بأنفسنا..





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة