مكاشفة النفوس بما فيها أصل علمىٌّ ينفى عن الأمة الأمراضَ التى تسكن فى الزوايا المعتمة، ولا ينتبه إليها أحدٌ حتى تنقلب إلى داءٍ اجتماعى، نألفه، ونمر به، وقد مات فينا معنى الإنكار لانتشاره وكثرة المنظرين له، ونحن فى زمنٍ يعتمد الكثرةَ مقياسًا للصواب والخطأ!.
ومن تلك الأدواء التى سكنت حياتنا علمًا وسلوكًا: داء التقديس، وهو داءٌ ينبت فى الصدور التى بسط عليها التعصبُ سلطانَه، فلن تجد تقديسًا إلا ومن ورائه تعصبٌ لا يقبل مَسًّا ولا همسًا ينال من شيخه أو حزبه أو جماعته أو زعيمه!. وقديما وقفت فى ترجمة أبى جعفر الطحاوى رحمه الله على كلمةٍ قالها وهى: "لا يقلد إلا عصبى أو غبى!".
وكل متعصبٍ لغير الحق لا يعرف له دليلًا إلا التقليد، وهذا يفسر لك ما كان بين الخليل إبراهيم عليه السلام، وقومه عند سؤاله لهم عن تماثيلهم التى يعبدونها، فقالوا: وجدنا آباءنا لها عابدين!.
هكذا! صار فعل الآباء دليلًا ذاتيًا، وحجةً قائمةً يستند إليها العاكفون على أصنامهم، كأن التقليد- أو التقديس- سلبهم آلة التفكير وطمس بصائرهم؛ فهى تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنهم شيئا.. وأى إنسان عاقل لا يفعل هذا إلا عندما يُمسخ العقل ويصير أداةً للتبعية الذليلة!.
وهذا سر تخلف كل أمة، عندما يخفت فيها صوت الانتصار للحق، ويعلو صوت الانتصار للأنا أو الحزب أو الشخص أو الجماعة، وإذا تخلفت لم تعد تبحث عن معيار الصواب والخطأ، بل عن معيار "الانتماء"، إما إلى "النسب"/ بالتقليد، أو "الحزب"/ بالحزبية، أو "الجماعة"/ بالعصبية!، فإما أن تنتمى الفكرة إلى الآباء أو المجتمع الذى أحيا فيه، أو للحزب الذى أنتمى إليه، أو الجماعة التى أدين لها بالولاء، وإلا صارتْ فكرةً مُلغَاةً لا قيمة لها!.
ولقد تنبه لهذا الأصل النفسى الفكرى الاجتماعى المفكرُ الجزائرى مالك بن نبى رحمه الله، فهو يرى أن المجتمع المتخلف لا يزال يقيس التقدم بإرجاعه إلى عالم الأشياء، ثم إذا ترقى قليلاً فإنه ينتقل من "توثين عالم الأشياء" إلى "توثين عالم الأشخاص"؛ فتجده متعلقًا بـ"القائد الزعيم"، وكأنه لا يُدرك أنه بذلك يُعَطِّل "فاعلية الإنسان" فى المجتمع، ولا نهضة لمجتمع إلا بأن يكون عالم أشيائه وأشخاصه دائرًا حول عالم الأفكار لا العكس!.
والذى استقر فى دين هذه الأمة الذى نبعت منه حضارتها: الاستقلال فى النظر، وتعظيم الدليل، ونفى المتابعة العمياء التى تُثمر البغضاءَ والأثَرة والانتصارَ للباطل- الذى هو الحق لأنه خرج من حزبه أو جماعته أو شيخه أو زعيمه!.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وليس لأحدٍ أن ينصِبَ للأمة شخصًا يدعو إلى طريقته ويوالى ويعادى عليها غير النبى صلى الله عليه وسلم، ولا ينصب لهم كلامًا يوالى عليه ويعادى غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة".
ولقد تتابعت الأيام والقرون على هذه الأمة، فتعطلت – أو أريد لها أن تُعَطَّل- آلية النقد التى تبعث الاستقلال، وملكة التفكير، ودبَّ فى الأمة تبعية ذليلة غريبةٌ عليها، وطغت حتى شملت مستويات الوجود الإسلامى كله:
فهذه جيوش الاحتلال تعيث فى عالمها فسادًا ماحقًا يجعل منها تابعًا ذليلا باستعمار المكان، وتقدم هذا الاستعمار المكانى استعمارٌ فكرى آكلٌ ينقلها من الريادة إلى التقليد والتبعية، باعتبار الآخر هو "النموذجَ"، الذى لا بد من مسايرته لكى لا نسقط من ذاكرة التاريخ الجديد!.
ثم تتابع الوهن، واتخذ هذا التقليد مُسُوحًا شرعيةً، وانتقلت العقلية التابعة التى ورثت آفات الاستعمار إلى الحقل الإسلامى، فاتكأ الكثيرون على التقليد، وتماهَى الشيخ والحق، أو الجماعة والإسلام معًا فى الذهنية المقَدِّسة، وانتقلنا إلى عِصمة "خفيةٍ" يمارسها الأتباع الذين يؤكدون أنهم يتعصبون للحق، الذى هو- مرةً أخرى- شيخه أو حزبه أو جماعته!.
وهذا ما يفسر لك الانزعاج من النقد، الذى ينعتونه بالحقد، ولو كان مُؤَسَّسًا على دليل شرعى، وقول فقهى راجح، وفقه سياسى سوى، ولست محتاجًا هنا إلى التأكيد على أنى أتكلم عن الفقه الذى هو الفقه، وعن النقد العليم الذى لا علاقة له بما يقوم به "المجددينات" فى هذه الأيام!.
والمحنة كل المحنة أن صاحبنا لا يعرف أنه مبتلى، ويحسب نفسه مستقلًا، وما هو إلا أسيرٌ زيفوا له قيوده، بالوهم والكذب والتضليل!.
وهذا التقديس، الذى يثمر التقليد، الذى يثمر الأَثَرة (الأنانية) والعدوان، سمت شامل يتعدى الداخل الإسلامى إلى غيره من الكيانات العلمانية التى تردد ببَّغائية فكريةٍ شعارات الحرية والعقلانية، بينما تعتمد "توثين الأشخاص" مبدءًا عاما لها فى كل ما تفعل، ولو نطقَ/ أو "غرَّد" هذا الشخص/ الوثن بالتناقض الذى يجعل أقواله وأفعاله يلعن بعضها بعضا، وهو ما أثمر ما يمكن تسميته بـ"الكهنوت السياسى!".
وهذا الداء العصبى المُقَلِّد، لا يكون إلا مع ضعف العلم الموصول بالوحى؛ لأن للوحى-"قرآنًا وسنةً"- رفعةً تنهض بالإنسان وتجعله كيانًا عصيًّا على التبعية إلا للحق، بعيدًا عن الشخوص والأسماء والانتماءات الحادثة.
وهذا العقل المصنوع فى محضِن الوحى هو العقل الذى يرفع الأمة ويؤسس لكيان مستقلٍ، لا يضعف أمام الوافد الجديد، ولا يجمد فى محاجر التعصب والتقليد!.
يقول شيخ الأزهر العلامة محمد الخضر حسين، رحمه الله: لا تُرسلْ فكرَك وراء البحثِ عن حقيقةٍ، قبل أن يُنْفَخَ فيه روح الاستقلالِ؛ فإن التقليدَ موت، وما كان لجثث الموتى أن تغوصَ الأبحُرَ العميقة!.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
جرجس فريد
جذور الاستبداد
عدد الردود 0
بواسطة:
الباشا مهران
كالعادة مقال كتحفة فلسفية
عدد الردود 0
بواسطة:
adel
كلام محترم
فكر وتجرد يجب فهمه جيدا ماشاء الله كلام راقى