كانت تجلس ساكنة تنظر لزوجها أبو مجاهد الذى كان ممدا على الكنبة وصوت شخيرة يعلو ويهبط كترنيمة رديئة وضعها موسيقار مبتدأ.. كان الرجل قد غلبه النعاس وهو يشاهد التلفاز.. وما هى إلا لحظة إلا وعلا صوت صراخ وأصوات أخرى عالية آتية من الحارة هب على إثرها أبو مجاهد من النوم مفزوعا.
خير يا حاجة هو فيه إيه؟، الظاهر عركة يا حاج.. أنصت أبو مجاهد باهتمام شديد وقد طارت من عينيه كل علامات النعاس التى كانت تكسو ملامحه منذ لحظات.. بادرها قائلا الصوت الجاعورة ده مش غريب عليا.. مش ده صوت الزفت ابنك يا حاجة؟؟ بعيون زائغة وصوت يبدو عليه الارتباك جاوبته قائلة.. الظاهر كده يا حاج.. خرجا مسرعين إلى البلكونة.
كانت الحارة ممتلئة بشباب وأطفال اجتمعوا ليشاهدوا المعركة الدائرة وأصحاب المحال وصبيانهم مصطفين أمام محلاتهم، وكأن على رؤوسهم الطير.. كان مجاهد يحاول الإمساك بتلاليب شاب فى سنه وبضعة شباب يحجزون بينهما ويمنعونه من التمكن منه.. كان صوت مجاهد يرج الحارة وهو يقول والله لاوريك يا ابن الراجل ال..ل.. رد عليه الشاب مسرعا والله أنت اللى ابن راجل.. ومرة.. و..
تجمعت كل الألوان فى وجه أبو مجاهد وصاح بصوت جهورى جعلت كل الأنظار تترك المعركة وتتجه لأعلى.. فض السيرة يا بنى أنت وهوا.. وأنت.. أنا ليا كلام مع أبوك.. دخلا إلى الصالة وأبو مجاهد يقول.. صحيح معدوم التربية يجيب لأهله العار.. نظرت أم مجاهد للأرض بعيون منكسرة ولم تنبس ببنت شفه.
دخل مجاهد وهو يلملم كم قميصه الممزق.. كان أبوه يجلس على الكنبة متجهما وعيناه تنظران إليه نظرات تكاد أن تلتهمه.. تجاهل نظرات أبيه واتجه إلى الحوض ليغسل وجهه.. لحظات وخرج متجها إلى غرفته.
استوقفه أبوه بلهجة حادة.. تعالى هنا.. وأشار له بالجلوس على كرسى يجاور الكنبة حيث جلسته المعتاده.. جلس مجاهد متحاشيا النظر فى وجه أبيه الذى بادره قائلا: يا بنى أنت لا خيرك ولا كفاية شرك.. بهدلتنا أنا وأمك وهزئتنا.. ما أنت لو كنت صاحب دين ماكنتش عملت كده.
التفت إليه مجاهد وقد نسى ادعاءه الكسوف وبعيون واسعة قال لأبيه يعنى أيه؟؟ يعنى أنا كافر!! رد أبو مجاهد بهدوء شديد.. شوف يا ابنى الأسلوب ده والحركات دى تعملهم أنت واللى زيك اللى احترفوا الجدل وتجارة الكلام على غيرى.. لو تعرف دينك كنت عرفت حديث الرسول عليه الصلاة والسلام لا تسبوا آباء الناس فيسبوا أباءكم.
علا صوت أم مجاهد.. أنا أول مرة أسمع حد يجيب سيرتى إلا على أديك ياابنى.. والله لو كل الخلفة زيك كده.. الله الغنى.. رد مجاهد مسرعا وهو يلتفت لوالديه ويقلب كفيه متعجبا والله انتو مكبرين المسأله..!! الشتيمة عادى.. دى حتى فى الهزار كمان.. قالت أمه متعجبة.. هزار؟! رد أبو مجاهد.. عادى يا بنى عند ولاد الشوارع.. فين النخوة وفين الرجولة لما تخلوا عرض أهاليكم مجال للمسخرة بينكم.. أتعلمتوا الوساخه دى فين؟!.
ساد السكون للحظات مرت كأنها وقت طويل قبل أن يتساءل أبو مجاهد.. كنت بتتخانق مع ابن الحاج عبدالله ليه؟؟ رد مجاهد بسرعة وقد وجدها فرصه للهروب من درس أخلاق لا يستوعبه.. كان يا سيدى نازل دفاع عن الخروف محسن ابن الحاج حسنين.. ردت أم مجاهد بلهجة متعجبة.. خروف..!! وإيه اللى خلاه خروف؟؟ ابن الحاج حسنين علم وأدب وأخلاق.. ياريتك كنت زيه.. ارتسمت على وجه مجاهد علامات السخرية وهو يقول.. زيه..!! أيش جاب الجدعان للخرفان!!.
كان أبو مجاهد يتابع الحوار وهو يشعر بالحسرة.. تنهد وهو يقول.. وإيه بأه ياهُمام اللى خلاهم خرفان!!، أبوه طول عمره بيقول الحق من يوم ماعرفناه.. اعتقلوه بدل المرة عشرة ومحسن ابنه اعتقل آخر سنة فى الكلية وراحت عليه الامتحانات.. فى الوقت اللى أنا وأمك كنا قاعدين على نفس الكنبه دى بنشوف فوازير نيللى وفطوطه وشريهان وألف ليلة وليلة وسعادتك كنت ملموم على الصيع ولاعمرك كان لك أهتمام لابسياسه ولاغيرها..!!.
رد مجاهد إحنا يا حاج ثوار أحرار.. رأينا من دماغنا مش زيهم.. زى مين يا ابنى..!! كل الأحزاب كده لو ماكنتش عارف..!! يا مجاهد لا تنابزوا بالألقاب ولا يسخر قوم من قوم.. عندك نقد موضوعى انقدهم من غير تجريح وكلام مالوش لازمه.. لهم أخطاء كثيرة.. أيوه.. ولكن الأسلوب اللى إحنا شايفينه مش هو الحل.
وبعدين بقيت ثائر يامجاهد..!! يا بنى الملايين اللى ثارت ونجحت الثورة رجعت بيوتها لأن وراهم أكل عيش.. ثوار أيه اللى يكسروا ويحرقوا ويحدفوا مولوتوف..؟! وما كاد مجاهد يحاول الرد حتى بادره أبوه.. قوم يا ابنى.. الكلام خلص والجدال معاك مش هيجيب نتيجه.. روح اتوضى وصليلك ركعتين.
اتجه أبو مجاهد لغرفته.. غير جلبابه ولبس طاقيته ونزل فى طريقه للمسجد لصلاة العشاء.. أخذ يتذكر ما يشاهده فى الفضائيات من مسلسلات حواراتها ومواضيعها منحطة.. ومن أعلانات هابطة ومن برامج حوارية تمتلأ بالألفاظ السوقية والشتائم التى لم تترك كبيرا ولا صغيرا.. تتاجر بالمواقف وتشعل النفوس.. تذكر أحدهم وهو يحرض على أن يقاتل فرقاء السياسة بعضهم البعض ولا يستحيى وهو يقول واقتلوهم حيثما وجدتموهم.. كان أبو مجاهد يزداد يقينه يوما بعد يوم بأننا أمة رسبت فى الاختبار بنتيجة لم ينجح أحد..!!.
وما إن هم أبو مجاهد لخلع حذائه ودخول المسجد إلا واخترقت آذانه سيل من الشتائم لصبية يمسكون بتلابيب بعضهم البعض من أول يا ابن ال.. إلى ياأبن المرة.... إلى باقى القصيد.
اتجه أبو مجاهد ليضع حذائه وهو يقول لنفسه.. إنما الأمم الأخلاق مابقيت.. وقبل أن يرفع كفيه ليقيم الصلاة تذكر القول.. يعيش المرء ما استحيا بخير.. ويبقى الجذع مابقى اللحاء.. رفع أبو مجاهد كفيه وهو يقول اللهم ارفع غضبك ومقتك عنا.
صورة أرشيفية
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
اكرم
وحشتنا ووحشتنا مقالاتك ياكبير
عدد الردود 0
بواسطة:
رفيدة محمد عبد المنعم
اللهم ارفع غضبك ومقتك عنا
عدد الردود 0
بواسطة:
حمدى رسلان
راجع قرارك يادكتور طارق أرجوك
عدد الردود 0
بواسطة:
أيمن جمال مشيمش
عودا حميدا
عدد الردود 0
بواسطة:
ياسر الفولى
لم ينجح أحد
عدد الردود 0
بواسطة:
هناء المداح
وإذا أصيب القومُ في أخلاقهم.. فأقم عليهم مأتمًا وعويلا
عدد الردود 0
بواسطة:
حازم البدراوي
قصة تعبر عن واقع أليم
احسنت استاذ طارق .
عدد الردود 0
بواسطة:
ثريا العمروسى
اين الاخلاق
عدد الردود 0
بواسطة:
د.هانى هجرس
حالة انحدار
عدد الردود 0
بواسطة:
سحر الصيدلي
عودا حميدا